الأربعاء، 28 مارس 2018

سفرية "واو نكورت" أساطير الأولين وأخبارالشهداء.. بقلم : خالد البرنوصي

“أَسّا ذَصّو، أَسّا ذَصّو، أَسّا ذٓصّو، أَسّا ذَصّو… إيمانيكّات ثوّاث ؟” (من هنا حائط،وهنا حائط ثاني، والثالث هنا، وهناك الرابع… لكن أين هو الباب؟) نعم، هذا هو السؤال.. أين هو الباب؟-وهل وجد اللص الباب؟-

سأله الطفل الجالس أمامه ثانية. لم يعره الشيخ اهتماما وواصل حديثه : من زمن بعيد، حدث أن وصل لص إلى بلدتنا وسرق أمتعة أرملة. لم ينتبه إليه أحد وهو يسرق، ولما سقطت العتمة، توجه إلى المسجد. طلب من الفقيه استضافته ليبيت الليل، ومن عادة المساجد استقبال عابري السبيل، فتأويهم.نام اللص، وباكرا مع حلول الفجر، قام من نومه، وتوجه إلى الباب للخروج، فكان منه ما أكرره على مسامعكم :“أسا ذَصّو، أَسّا ذَصّو، أَسّا ذٓصّو، أَسّا ذَصّو… إيمانيكّات ثوّاث؟”-وهل قبضتم عليه؟ ماذا حدث للص؟نهر الشيخ الطفل ليسكت :-أسّغْذ شك، أسّغْذ، أسّغْذ…ومسكه من ذراعه بقوة.
 
-هاهم قد أحضروا العجل. قال أحدهم، وقمنا جميعا، حيث كنا نجلس على حافة وادي العيون، فتخلص الطفل من قبضة جده القوية، وتخلص الجد من شغب أسئلة حفيده. وبقيت الأسئلة حول اللص وجدران المسجد وبابه، عالقة.
 
توجهنا بالعجل إلى المكان الذي أعددناه للذبح، تحت ظلال أشجار الجوز والزيتون، فاليوم هو مناسبة “الليلة الكبيرة” كما توصف هنا ليلة القدر. ومن عادة أهل بلدة واونكورت، أن يتشاركوا في شراء ذبيحة ويقوموا بتوزيعها بينهم. صحيح أن هذا التقليد قلت الكثير من حفاوته، وأن عدد مرات إقامته قد تقلص بشكل كبير، لكن الأهالي لا زالوا متشبثين به، ويشاركهم في ذلك حتى المقيمون بعيدا عن البلدة.
 
كنا قد وصلنا البلدة صباحا، بعد سفر متعب وقاس، فأن تقطع طريقا متربة، ومعلقة بين الأجراف والفجاج، وفي سيارة مهترئة في أكثر من ساعتين هو الجحيم بعينه. لذلك لم نشارك في الذبح والسلخ وتوزيع الذبيحة. تكلف بقية الشباب، والشيوخ افترشوا الأرض، وشكلوا ما يشبه حلقة حول الشباب، وقد شاركناهم حديثا مسترسلا عن الزمن الجميل، وكان الأطفال حولنا لا يكفون عن الركض والقفز وتسلق الاشجار.
 
بين الفينة والأخرى يتدخل أحد الشيوخ لتقديم ملاحظة عن تقسيم الذبيحة، في العادة يتم قطع كل عضو من أعضاء الذبيحة إلى عدد من القطع يساوي عدد المشتركين. ويتم تقسيم جميع القطع في رزم صغيرة على حصيرة معدة من أغصان وأوراق الشجر. ثم تنظم قرعة عن أي رزمة يبدأ التوزيع بالتتابع على الأهالي.
 
ما أن انتهت عملية التوزيع، حتى تفرق الجميع، واتجهنا نحن صوب البساتين في جولة بالبلدة، إنها جنينة كما وصفها أحد الكتاب. توجهنا عبر وادي العيون، متسلقين تارة أجرافا وصخورا، وعابرين فجاجا ومسالك وعرة بين الأشجاروالأعشاب والمياه، إلى أن وصلنا الحدود الجنوبية للبلدة حيث منابع المياه الساخنة بأسفل الأجراف الصخرية العالية لـ”أزرو نَبْرُونْ”. المكان يوحي بالدفء والطمأنينة، رغم أنه موحش وعلى أصل خلقته. كنا في عمق الوادي، ولا يرى من السماء غير بقعة ضوء ضئيلة، وصخور ضخمة كما لو انها معلقة فوقنا.
 
عبر ممر ضيق يكاد لا يرى أثره، حاولنا التسلق والعبور إلى مغارة “إفري مَحْسَنْ”، بالكاد عدنا أدراجنا سالمين قبل أن نصلها. في ما مضى كان الطريق إليها سالكا، ففي حرب التحرير، رغم القصف والغارات العنيفة للجيش الفرنسي كانت المغارة، المأوى والملاذ الآمن لمقاتي جيش التحرير.
 
أخذنا حماما تحت شلال المياه الساخنة، من وصل إلى هنا ولم يفعل، ستلاحقة اللعنات والأرواح الشريرة، هذا ما أقره مرافقنا، واستلقينا في منبسط بين صخور ملساء وسط الوادي، حيث الرقعة الوحيدة التي تصلها اشعة الشمس.
 
ـ قاموا بعد الذبح، بتعليق العجل هنا، هنا حيث نستلقي، وعندما انتهوا من السلخ تَرَكُوه معلقا حتى يبرد لحمه ويجف، وبينما هم مفترشين الأرض غارقين في الحديث وفِي غفلة منهم، إذ بوحش يباغتهم، هاجم العجل وخطفه، حمله بخفة واختفى في مغارة “إفري مَحْسَنْ”.
 
ـ اجتمع الرجال وقرروا ان يلاحقوا الوحش ليعودوا بالعجل، فشكلوا مجموعتين مسلحتين، وسارعوا لإنجاز المهمة، لكن الرجال تاهوا في شعاب الغار، وجدت المجموعة الأولى نفسها وهي تخرج إلى “عين عيشة” قرب تاونات، والثانية إلى “عين حمرا” على بعد عشرات الكيلومترات.
 
ـ إنه الممر السري إلى كل عيون الدنيا.هكذا ختم مرافقنا حديثه بيقين.
 
إن تدفق المياه الساخنة والباردة على شكل عيون، من أكثر من صخرة صلبة وملساء على جانبي أجراف “أزرو نَبْرُونْ”، يبعد عن حديث مرافقنا ـ ولو لحين ـ أي شك.
 
ربما كل هذا الدفق الهائل من الماء والمحكي الأسطوري، ما يجعل الأهالي يتمسكون بهذه الأرض.
 
قبل آذان المغرب، كنا في طريقنا إلى المسجد حيث أعد فطور جماعي. استعدادا للاحتفال بليلة القدر.
 
لمسجد واونكورت في نفوس الأهالي قدر كبير من الاحترام والتقدير، وقد يصل إلى حدود التقديس، لما شكله منذ البداية فضاء ليس للعبادة وفقط، بل حتى لتدبير المجال الاجتماعي والثقافي والاقتصادي المحلي، ولما نسج حوله من حكايات ذي أبعاد رمزية مختلفة.
 
صحيح أن كل شيء تغير، خصوصا بعد توالي موجات هجرة معظم العائلات إلى المدن المجاورة والبعيدة، وإلى أوروبا، لكن في نفوسهم حنينا دفينا إلى البلدة، وإلى فضاءاتها وإلى إرثها و تاريخها، وإلى مسجدها.
 
شيد المسجد بمركز البلدة، أو ما كان كذلك سابقا، وإلى الآن لا زال يطلق عليه “أدشار”، في منطقة صالحة للزراعة، وأكثر عرضة للشمس خصوصا أيام الشتاء، قرب عين دائمة الجريان، وحوله كانت معظم المباني السكنية. ولا تزال آثار بعضها قائمة حيث كانت تشيد على شكل مجمع سكني يضم العديد من الغرف لأكثر من أسرة وعائلة قبل أن تنتشر لاحقا المباني السكنية الخاصة في معظم أرجاء البلدة.
 
لقصة بناء المسجد حكاية تكاد تكون أسطورية.
يحكى أن أهالي بلدة واونكورت وأهالي بلدة دوايارالمجاورة، اجتمعوا واتفقوا على بناء مسجد مشترك في تلة تتوسط البلدتين، وهي عبارة عن امتداد لسفح جبل يفصلهما. بعد الاتفاق، بدأ الأهالي في جمع الأحجار لبناء المسجد، في فرق تشتغل بالنوبة وفي التنظيم التآزري “ثويزا”، يجمعون الحجر من الصبح إلى المساء، قبل سقوط العتمة يغادرون على أمل العودة غدا لجمع المزيد وما يكفي لبناء مسجدهم المشترك. لكن في الصبح غداته، عندما يصلون الموقع، يتفاجأون بعدم وجود أية قطعة حجر مما جمعوه يوما كاملا قبله. كرروا الأمر لمرات، وكان الحجر في كل مرة يختفي، اشتكوا وبمرارة، حتى انتبهوا إلى كومتي حجر تتجمعان ويتزايد حجمهما في كل بلدة على حدة، استغربوا أمر هاتين الكومتين، واختفاء ما يجمعونه من حجر في تلة “ادهار ندحو”. وبعد مشاورات قرروا ضرب حراسة مشتركة على الحجر الذي يجمعونه في المكان المختار لبناء المسجد.

ياللهول !! ويا لصدمة الحراس!!

في الليلة الأولى من الحراسة سمعوا أصواتا، ورأوا قطع الحجر تتطاير فوقهم، مرة جهة بلدة واونكورت، ومرة وجهة بلدة دوايار.

اقتربوا أكثر من المكان، وهالهم ما رأوا من شبحين غريبين، وما سمعوا من أصواتهما.

يقول الشبح الأول للثاني:

أَيْسِى أ عيسى (خذ يا عيسى)

فيأخذ عيسى حجرة وتطير في السماء كما لو أنها قطعة خشب خفيفة.

ثم يقول الثاني للأول:

أَيْسِى أ موسى (خذ يا موسى)ـ

ويأخذ بحجر مهما كان حجمه وثقله ويتطاير هو أيضا في السماء باتجاه إحدى البلدتين.

في هذا الحكي الدارج هنا، وعندما يروى باللسان الأمازيغى، لن تتذكر بعد الاستماع غير تلك النغمة كموسيقى قادمة من عصور خلت :

“أَيْسِى عيسى أَيْسِى موسى أَيْسِى عيسى أَيْسِى موسى”.

عاد الحراس صبحا إلى بلدتيهما، وفي قلوبهم رهبة ودهشة كبيرة، ولم يكن أهالي واونكورت أقل خوفا مما حكى الحراس، إنما تملكهم خوف أكبر من الخوف عند الحكاة أنفسهم.

بعد التداول في ما أخذ موسى وما رمى عيسى، اعتبروا الأمر أمرا مقضيا، وإن كان نقضا بينا للاتفاق مع أهالي بلدة دوايار. فكان قرارهم ببناء المسجد خصيصا للبلدة حيث تكومت الأحجار، حين تسقط برمية من واحد من الشبحين.

باشر الأهإلى البناء حجرا حجرا، فشيدوا أسوار المسجد، وهو عبارة عن غرفة واحدة مستطيلة.وما أن أتموا التسوير حتى توجهوا للغابة الكثيفة المجاورة وقطعوا ساق أضخم وأطول شجرة صنوبر. بعد أيام استطاعوا نقلها وإيصالها إلى المسجد لتشييد سقفه. وكان البناء مثله مثل بقية المباني في الريف، يتم باستخدام الحجر والطين، وتشيد السقوف بسيقان الأشجار وأغصانها، ويتم تغطية السقوف بالتراب بعد أن يتم تشبيك قطع أخشاب رقيقة ورفيعة فوق السيقان والأغصان.

قبل الغروب وصولوا، وما أن حاولوا وضعها على السورين، حتى اكتشفوا أنها قصيرة.



هدهم التعب، وإحساس كبير بضياع جهد وبلا جدوى، انصرفوا على رجاء أن يشاء الله خيرا بما سيفعلوا غدا. فالأمر قضي، لله الأمر والرجاء.

بعد الفجر ومع أولى خيوط الشمس، يكتمل المشهد، وتكتمل قمة الاندهاش. مع توالي وصول الأهالي يزداد الوضع غرابة واستحالة، ساق الشجرة مرفوع وموضوع على سوري المسجد المتقابلين وهما في ميلان واضح وجلي نحو الداخل، ميلان أتيح للساق رغم قصره أن يوضع فوقهما.

الكل ينظر إلى الكل فاغرا فاه، غرابة المشهد أفقدتهم التعبيرلزمن، وأخرست ألسنتهم، وزجت بهم في هواجس وأسئلة معلقة.

وحدها لازمة “أَيْسِى عيسى أَيْسِى موسى أَيْسِى عيسى أَيْسِى موسى” وحدت قلقهم وكادت تخرج من صدورهم كشهقة جماعية لفك طلاسم الوقائع.

منذ ذاك اليوم صار للمسجد فرادته وقداسته، إنه المسجد الذي أصبح مبنيا بقدرة قادر، وفي غفلة من الأهالي.

“ذامزيذا ن واونكورت اديصبحن ذابنا”

هذا المسجد، من أقدم المساجد في فرقة أولاد علي بنعيسى، إن لم يكن الأول. وهي الفرقة من قبيلة كزناية التي استوطنت على ضفاف وادي العيون الذي ينبع من أسفل جبل أزرو قشار، ويعد من الروافد الدائمة الجريان لنهر النكور. وتمتد أراضي الفرقة من أزرو قشار إلى حدود ذيزي ندرار قرب قسيطا شرقا وإلى حدود دواوير أربعاء تاوريرت شمالا.

تشييد المسجد تم من زمن قديم وجل الروايات الشفهية تعود إلى قرون خلت، وهذه الحكاية تروي قصة البناء الأول، والتشكل الأول للمسجد، وتتحدث عن وقائع محددة في المكان، وتؤشر إلى دوافع وأنظمة اجتماع وصراع معقدة في الريف العميق، البعيد عن الحواضر وعن مركز الإسلام، وربما تبين وظيفة ما للدين يراد تذكرها أو نسيانها. ومع كل هذا فلحكاية التشييد معنى ما يستعاد هنا، أهو تنبيه إلى أن موسى وعيسى، وقد كان لهما أتباع في هذه الأرض الطيبة، هم سبب التفرقة بين الناس والمداشر؟ وأن محمدا يسعى إلى الوحدة؟ أم أن للاسطورة هذه وظيفة التأطير الديني للصراع بين البلدتين حول الماء والأرض؟

رغم عيسى وموسى، صار لواونكورت مسجدا، صار مشيدا فجأة.

هذه من الكرامات المؤسسة للمسجد وله من التاريخ والكرامات، ما يجعلنا لا نرقد للنوم.

بعد صلاة التراويح، في بهو الجامع شكلنا حلقات على موائد العشاء، ومع كؤوس الشاي المنعنع يحلو الحديث، وتتفتح الذاكرة.



في ما مضى كان الأهالي في مثل هذه المناسبة أو غيرها، أو من غير مناسبة يسهرون إلى آخر الليل، وكان المسجد يعج بالناس شيبا وشبابا. بعضهم يصلي، بعضهم يتلو القرآن والأمداح، بعضهم يعد الطعام والشاي وبعضهم على الجنبات خارج أو داخل المسجد يقصون أنباء الأولين أو يحكون يوميات حاضرهم. وهنا كان يتم الاتفاق على تدبير أمور السقي والرعي وتحل نزاعات الأرض وتعقد الفروض وتفك العهود. وتنظم أشكال التآزر والتضامن.

أما الآن فقد تغير كل شيء، صار العدد قليلا، والكل في زحمة اليومي والانشغالات، ووجود مؤسسات أخرى تعنى بشؤون الأهالي، فلا شيء أبقى غير الذاكرة والحنين.

انتهت مراسيم الاحتفال، وكان في ذهني سؤال شهداء التحريرالذين سقطوا قرب المسجد. في ذهني مكان الشهادة، إنه المكان الذي أحتفظ له في مشاعري بطهارة فريدة من صغري.

ـ هل يمكن أن تشير لنا أين سقط الشهداء؟

ـ هنا… هنا…

لم نكن قد خطونا خارج المسجد إلا قليلا، ونحن نخطو في منحدر جهة الشرق، كنا نقترب :

- هنا سقط الشهداء…

الآن عرفت المكان بالضبط، كنت أعرف القصة من أولها، وحده المكان تاه مني، نعم هنا، قرب مسجد واونكورت، حدث ذلك منذ زمن بعيد.

بعد فشل مباحثات مؤتمروجدة، بين قيادة جمهورية اتحاد القبائل الريفية وإسبانا وفرنسا، وجدت منطقة “أيثْ عْري أُوعيسى” نفسها أمام وابل من قذائف المدفعية وقنابل الطيران الفرنسي.

يروى أنه في أحد صباحات الغزو الفرنسي للمنطقة، عم أجواء البلدة أزيز طائرة، حلقت فوق البلدة، فوق المسجد تماما، لم يكن في المسجد غير الأطفال والفقيه، ومن في أرذل العمر من الرجال، لما شاهدوا الطائرة قرروا فورا الخروج وطلبوا من الصغار أن يلتحقوا ببيوتهم. وما أن خرج الكل وتفرق الجمع حتى صارت الفجيعة. قذيفة تسقط قرب المسجد، وتسقط مباشرة على أصغر طفلين بالكاد يفكان الخطو، لم يتمكن أهالي البلدة من جمع أشلاء جثتيهما. فقد تناثرت على مسافات وعلقت فوق أغصان شجر الزيتون. وعلى مقربة منهما يسقط شيخ هرم هو “مسعوذ نَ عْري نَ ذْبانوصْث” وهو شيخ طاعن في السن، كان قد خرج لتوه من منزله المجاور، وفي قب جلبابه تين مجفف وخبز شعير منطلقا إلى إحدى القمم في دورية حراسة.

لم يكن في البلدة غير الأطفال والشيوخ والنساء.

كان بقية الفلاحين بسلاحهم على جبهات القتال.

ففي اجتماع لقيادة الجمهورية الريفية بالقادة العسكريين للقبائل، ومنهم القائد عمر أخياظ عن فرقة “أيثْ عْري أُوعيسى”، تقرر أن يناط بجيش الفرقة، وفرق أخرى من قبيلة أيث توزين، حماية خط الدفاع الممتد من بوعلما تلامغشت تيزي ندرار ثلثاء أزلاف، نظرا لما كان هذا الخط من أهمية في الدفاع عن مركز الجمهورية بأيث ورياغل من الجهة الجنوبية، خصوصا أن إسبانيا كانت خبيرة في التفافها واندفاعها في اتجاه هذا الخط عبر العروي وعزيب ميضار.

كان كل جيش الفرقة على هذه الجبهة الشمالية لقبيلة اكزناين في دفاع ضد أي توغل إسباني، سقط الكثير من الشهداء خصوصا عبر القصف الجوي، وكان من بلدة واونكورت شهداء سقطوا خلال غارة على أحد خنادقهم، وتشاء الصدف أن يكون ثلاثة منهم يحمل اسم “أَعْمار”.

المفاجئ أن الخطر على المنطقة كان أعنف من الجهة الجنوبية من قبل القوات الفرنسية، حيث اندفعت من تازة بقوة وسرعة ومن غير مواجهة تذكر. لقد كان معضم قواد القبائل وقعوا صكوك التعاون، وجل القادة العسكريين قاب قذيفتين أو أكثر أن يستسلموا، لتصل تيزي وسلي وتتوغل في اتجاه الغرب مخترقة وسط اكزناين ومن محاور عدة، تطوي المسافات في اتجاه بني عمارت لتشرف على تاركيست، محاصرة بذلك أي أمل في المقاومة.

مع نهاية أسبوع بعد مؤتمر وجدة، وحين كان الأهالي يشيعون شهدائهم ويبكون أعمار شبابهم الذين سقطوا، كان القائد عمر أخياظ مع ثلة من الرجال، يحثون الخطو إلى قرية “جبل سيذي عيسى” المجاورة، يقودون عجلا ذبح أمام الجيش الفرنسي عربون ولاء، وصك استسلام.

سقطت آخر فرقة من قبيلة اكزناين، وكانت بلدة واونكورت وزيتونها وجوزها ومسجدها تحت رحمة لصوص قدموا من خلف البحر، عبر براري المغرب.

لمدة ثلاثين سنة عاث اللصوص نهبا وقمعا في هذه البلدة، وهذه حكاية أليمة كم يحتاج المرء ليرويها.

سنرويها لاحقا لأن في ألَمِها تجدد الأمل، ونسج مجددا قصص رجال وبنادق.