بقلم : URSULA KINGSMILL HART
ترجمة : عبد الله الجرموني
استلهم هارت في أطروحته عن أيث ورياغر عناصر المنظومة الانقسامية مع إدخال تعديلات على بعض جوانبها. وقد شكلت دراسته الميدانية هذه حقلا خصبا لتطوير النظرية الانقسامية، غير أنه أعلن لاحقا تراجعه عنها، وذلك في مقدمة الطبعة الأخيرة من كتابه،حيث أكد بشكل واضح عدم ملائمة تطبيق هذه النظرية على هذه القبيلة، وهو الأمر الذي يمكن اعتباره تحولا لافتا للانتباه. فقد انتقل من موقف مؤيد إلى موقف مضاد للنظرية الانقسامية كما قدمها سلفه افنس بريتشارد Evans-Pritchard في دراسته عن قبائل النوير بالسودان.
لقد استفاد دافيد هارتمن سيل الانتقادات التي وجهها إليه الأنتربولوجي الأمريكي هنري مونسون(5)، واستفاد من كل الملاحظات التي وُجِّهَتْ للنظرية الانقسامية سواء من طرف جاك بيرك، أو جرمان عياش، أو عبد الله العروي، أو عبد الله حمودي. ففي مقدمته الخاصة بالنسخة العربية راجع التصور المحوري الذي دافع عنه. وأعلن لأول مرة في هذه المقدمة الجديدة عن تخليه بشكل كبير عن جوهر الانقسامية، وأقر بعدم صلاحية تطبيق هذا النموذج على قبيلة بني ورياغر، وقد اعترف بالأخطاء التي ارتكبها في تحليلاته للبنية الاجتماعية الريفية، وعمل على إدخال العديد من التغييرات عليها(6). إنه تحول حاسم في فكر أحد أهم المدافعين السابقين الشرسين والمؤيدين لأطروحة النظرية الانقسامية للسلالة نحو موقف معاكس تماما، أي مضاد للانقسامية، ويعود السبب الأساسي في هذا التحول إلى المعطيات التي جمعها بشأن النزاع الدموي الذي وقع بين سلالتين من أيث ورياغر، وهي امجاط وأولاد الحاج امعاوش. لقد طرح هذا النزاع إشكالية حقيقية لمونتغمري هارت، فالنزاع الذي نشب فجأة بين السلالتين تحول من صراع خارجي إلى انتقام داخلي مميت بين أعضاء سلالة امجاط. وهذه الحالة أبرزت في نظره سلوكا مضادا للانقسامية، إذ تم تجاهل المبدأ الأساسي للقرابة العاصبة في هذا المثال(7).
خلص دافيد هارت من خلال نقد ذاتي لأطروحته إلى التمييز بين الانقسام الذي لازال مفهوما مقبولا لديه، وبين المفهوم الضيق للنظرية الانقسامية للسلالة كما طرحها افنس بريتشارد، وانتقد أيضا العديد من المعايير والشروط التي عددها بريتشارد بشأن مفهوم القبيلة، وخصوصا المعيار المتعلق بالتوازن والتعارض أو الانصهار والانشطار بين أجزاء القبيلة. لقد أثبت أن هذا المبدأ غير قابل للتحقق دائما، رغم أن هذا الشرط ظل مرتكزا أساسيا في النظرية الانقسامية، وقد وضح في نفس السياق أن خاصية المساواة لا توجد في جميع القبائل دائما، فبواحات درعة وواحة تافيلالت يمكن التمييز بين الشرفاء في الأعلى، وهم الذين يقومون بدور التحكيم، وامازيغن في الوسط، والحرطانين السود المزارعين في المرتبة السفلى، وأكد أن امرابطن كانوا يتقاتلون فيما بينهم بشكل شرس كما هو الأمر بمنطقة بني ورياغر، وهو ما يعني عدم صلاحية مقولة نزوع هؤلاء الصلحاء دائما إلى السلم، وهي نفس الملاحظة التي سبق أن أبداها عبد الله الحمودي بالنسبة للنزعة السلمية المزعومة للشرفاء، فكثيرا ما انتقل هؤلاء من الدور السلمي إلى الفعل السياسي المرتكز على القوة والحرب(8). ولدينا أيضا مثال شيخ تازروالت الحسين اوهاشم، الذي كان يمثل في منطقة سوس قوة سياسية تُلتمس حمايتها ويُخشى بأسها، وحضوره في تسوية النزاعات التي تقع بين القبائل المحيطة بزاويته كان أمرا ضروريا، لكنه مَثَّلَ في غالب الأحيان طرفا في النزاع أو حليفا للف بعينه، وهو الأمر الذي ينفي صفة الحيادية عن أدواره، فكثيرا ما كان يُسخر مكانته الروحية لبسط هيمنته المادية على المنطقة(9).
إن أهم ما تميز به مؤلف هارت عن قبيلة أيث ورياغر بالحسيمة، تحليله نظام القرابة السائد بالريف بعد المراجعة دون الخضوع لأي نمط من التصنيفات السائدة سواء عند هنري مورغان أو عند بيتر موردوك(10).
إن عمل هارت لم يكن له أن يكتمل دون المساعدة الكبيرة التي قدمتها زوجته(11)، والتي استطاعت، بعد مجهود كبير، اطلاع هارت عن قرب على العالم الداخلي للبيت الريفي الذي كان من المستحيل على الباحث اكتشافه، في ظل تقاليد المنطقة التي تحرم مجرد اقتراب الرجال الأجانب من مجمع النساء، بل مجرد الحديث عنهن أمام الرجال يعد خدشا للحياء، وأمرا غير مسموح به. فموقف الريفيين تجاه المرأة -كما رصدتها أورسولا- جد صارمة، فوجهة نظرهم أكثر صرامة من تلك التي كانت سائدة في العهد الفيكتوري(12). ولذا فقد عاش هارت مدة طويلة في الريف، محترما تقاليد المنطقة، فلم يتعرف أبدا على مظهر نساء عائلة موحند (عمر ازوكاغ)، حيث كان دائما بعيدا عنهن، وكذلك عن باقي النساء، فكان لزاما عليها أن تنسجم مع الريفيات اللواتي لم يكن أقل صلابة من رجالهن، وقد استرشدت بوصايا زوجها الذي علمها أهم قواعد الانتربولوجيا الاجتماعية، وهي في المقام الأول العيش مع الأفراد الذين تدرسهم، والتكلم بلغتهم، وعقد صداقة معهم، والانتباه إلى أبسط التفاصيل وتسجيلها بدقة.
لم تكن البداية سهلة فيما يتعلق بوسط النساء الريفيات، إذ لم تكن أورسولا مقبولة لديهن في البداية -حسب شهادتها- فقد كن ينظرن إليها بريبة وعدم ثقة، وبشيء من العداء، لأنها أجنبية وذات ملابس وشكل غريب عنهن، وعقب زيارات متعددة، بدأن يتعودن عليها، وينظرن إليها كواحدة منهن، خصوصا بعد أن استطاعت تعلم عاداتهن ولهجتهن، ونطق أسمائهن بشكل صحيح، حينئذ فقط أفصحن دون خوف أو خجل عن أحلامهن ومخاوفهن وأسرارهن، فعاشت معهن ما وصفته بمتعة الحياة البسيطة(13)، وسجلت في ذاكرتها بشكل جيد كل ما وجدته غريبا ومختلفا عنها في المسكن الريفي الذي ضمها، اعتمادا على قوة ملاحظتها وحنكتها العملية التي اكتسبتها من زوجها الأنتربولوجي، فاستطاعت بذلك، لاحقا، نقل الكثير من الأسرار الخفية حول الواقع الاجتماعي للمرأة الريفية، بأسلوب مليء بروح الدعابة والحيوية الإنسانية، مخترقة الجدران الموصدة بأقفال من التقاليد والأعراف والعادات المحلية الصارمة.
استفادت أورسولامن تجربتها في البحث الأنتروبولوجي الميداني إلى جانب زوجها،فأصدرت كتابا مستقلا عن الحياة اليومية للنساء الريفيات، بأسلوب أدبي وفني رائع، والكتاب الذي أنجزته نشر أول مرة سنة 1994 باللغة الانجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية(14). وكان قد كتب منذ عشرين سنة من قبل، أي في بداية السبعينات، كسيرة ذاتية في مجملها، وحكي للحياة اليومية لزوجة أنتربولوجي عاشت مدة سنتين خلال أوائل الستينيات وسط أسرة ريفية، ثم ترجم سنة 1998 إلى اللغة الاسبانية بمبادرة من زوجها، ووفاء منه لرغبتها(15)، حيث لم يكتب للراحلة أورسولا متابعة معالم التقدير الذي حظي به بحثها إعلاميا وجمعويا في إسبانيا والمغرب، بحكم أنها توفيت بألميريا الإسبانية قبل أن يترجم كتابها بسنتين(16). وقد خصص زوجها مقدمة مؤثرة لهذه الترجمة، كتبها بعد سنة من وفاتها، وقد عبَّر في عدة مناسبات عن الحماس الذي أبدته زوجته قبل وفاتها لإصدار النسخة الإسبانية، وفي سنة2010 تُرجم الكتاب إلى اللغة العربية.
يلامس الكتاب في خمسة عشر فصلا، عن قرب وعن معايشة دامت سنتين، وضعية المرأة الريفية المعزولة داخل فناء المنزل ومكوناته، ويصور حجم معاناتها في مجتمع تهيمن عليه العقلية الذكورية بشكل مطلق، تمتزج فيه المشاهد والصور التي تتناوب في انسجام تام مع الإيقاع العادي للدورة السنوية الزراعية كما يقول هارت، فالمرأة الريفية تتحمل ضمن هذا الإيقاع أعباء كثيرة ، تبدأ من فترة مبكرة من حياتها، وتتزايد بعد زواجها.
استطاعت أورسولا اختراق عالم مختلف بالنسبة إليها، وهو عالم حياة نساء الريف،وتحملت كل الصعوبات والمشاق في سبيل الاندماج في هذا الوسط الغريب على نمط حياتها السابق، حتى أضحت فردا منهن بعد أن تعلمت لغتهن وتشبعت بتقاليدهن،وقد أطلقوا عليها اسما ريفيا مألوفا هو “مونات”، اختاره لها موحند ودايف من بين أسماء ريفية أخرى لسهولة نطقه، مما يسر لها سبل التواصل معهن بسهولة. وكان نتاج ذلك كتاب وراء باب الفناء، والعنوان مستوحى من الفناء الداخلي المنفتح على السماء مباشرة، والمنغلق في نفس الوقت عن الخارج، والذي تحتوي عليه جميع المنازل الريفية. ويشكل هذا الفضاء العالم الرئيسي الذي تعيش فيه المرأة، وهو محاط من جميع الجوانب بسقيفة مشكلة من القصب المتشابك المستند إلى جذوع أشجار الزيتون والأعمدة الخشبية، وهو يقي النساء من أشعة الشمس صيفا، ومن التساقطات المطرية شتاء، وعلى مسافة قريبة من المنزل بنيت أفران للخبز من فخار وتبن على شكل قبة هرمية.
تصف الكاتبة ما يقع بتفصيل في فضاء الفناء من الداخل، وعن قرب، عاكسة الوضعية الصعبة للمرأة في منطقة الريف في الستينيات من القرن الماضي، حيث كان الريفيون يعيشون حياة بدوية قاسية، في منازل منعزلة ومتباعدة عن بعضها البعض، منخفضة، ومبنية من الطين والحجارة، ومحاطة في جزئها الأكبر بنبات الصبار الذي يحجب كل شيء تقريبا، لأن الريفي يغار على نسائه، ولا يسمح أن ينظر أي غريب إلى عائلته من الإناث، ولو من الجيران، ولذلك فإن كل من يتجاوز سياج نبات الصبار الذي يحيط بمنزل الآخرين ستكون البندقية له بالمرصاد، خصوصا في مجتمع تسود فيه خلافات الثأر(17).
حصل اللقاء الأول لأورسولا مع نسوة موحند بالفناء الداخلي لمنزله، وقد كان الأمر صعبا بالنسبة لها، فقد حاولت أن تتحدث معهن بتوظيف بعض الجمل والكلمات التي تعلمتها من زوجها دايف، غير أنهن كن يسمعنها دون أن يفهمن أي شيء منها، لاعتقادهن أنها تتكلم بلغتها معهن(18)، ثم استمرت محاولاتها التي انتهت في الأخير بتحولها إلى ريفية حقيقية، فقد استطاعت التغلب على الحاجز اللغوي محققة تقدما كبيرا بعد معايشتها للواقع اليومي لهؤلاء النسوة، والانخراط معهن في مختلف الأعمال المنزلية،إذ كان ذلك السبيل الوحيد للاندماج. ولم تخل هذه التجربة من مواقف طريفة؛ ففي إحدى زياراتها لبيت ريفي بالمنطقة، لاحظت كثرة الذباب في الغرفة، ولكسر الصمت وتطبيق ما تعلمته من اللهجة الريفية، أرادت أن تقول “يوجد ذباب كثير هنا”، ونطقت كلمة ذباب، بقولها “إزَّانْ” بالزاي المفخمة بدل إزَانْ، فأثارت الاستياء في البداية، ثم الضحك بين الجميع لأنها إنما كانت في الحقيقة تردد عبارة “يوجد غائط كثير هنا”(19).
يقدم كتاب الحياة اليومية للنساء الريفيات معطيات بيوغرافية دقيقة عن عائلة موحند (عمر ازوكاغ)، ووصفا لملامحهن، وملابسهن، ووظائفهن داخل المنزل وخارجه، وتنقل لنا أورسولا من خلاله حواراتها اليومية معهن، وطريقة تفكيرهن، وتصوراتهن عن قضايا نسوية خاصة. فأسرة موحند تتكون من والدته ارحيمو، التي تعاني من ضعف البصر، وأخته يامنة، التي كانت أكثرهن رفضا لتواجد أورسولا بينهن في البداية، مما جعلها تقوم بمجهود أكبر للتقرب منها وكسب ثقتها. ومن الواضح أن هذه الشخصية كانت مبعث كدر وتنغيص في العائلة، فهي تبحث دائما عن خلق المشاكل لأتفه الأسباب، يقيم زوجها في أوربا، غير أنها لا تقيم في بيت عائلته، لأنها لم تستطع بناء علاقة جيدة مع حماتها، وتصر أن تصحبه إلى فرنسا(20). أما أختها الصغرى اروازنة، والبنت المفضلة لدى أمها، فهي على النقيض تماما من أختها، إلا أنها تعاني من حزن دائم لمرور ثلاث سنوات على زفافها دون أن تنجب، مما يضعها في موقف حرج أمام عائلة زوجها عبد الرحمان، الذين يعملون على تأليبه لتطليقها أو الزواج من أخرى(21)، فالعقم في المجتمع الريفي يجعل حياة النساء مليئة بالمحن، إذ وضعية المرأة مرتبطة بإنجاب عدد كبير من الأطفال وخصوصا الذكور، ولذلك فإن اروازنة تعبت من ترديد التمائم وتناول الخلطات التي تعدها النساء المسنات دون جدوى، وكانت تظن أنها مسحورة من قبل فتاة كانت تريد أن تصبح الزوجة الثانية لعبد الرحمان(22). ورغم أن دافيد كان يوصي زوجته أورسولا بعدم التدخل والاكتفاء بالحياد والملاحظة، إلا أنها ألحت عليه بالحديث مع عبد الرحمان ليسمح لزوجته بالذهاب إلى الحسيمة لتفحصها الطبيبة، وقد وافق بعد تردد كبير. ولم تكن أي من نساء موحند قد رأين مدينة الحسيمة أو البحر قط، كما لم يخضن سابقا أي تجربة للسفر عبر السيارة، وقد كللت المهمة بالنجاح، فبعد معاينتها من قبل الطبيبة أخبرتها أنها بحاجة إلى إجراء عملية بسيطة لتكون قادرة على الإنجاب(23). وتقيم مع موحند في بيته زوجته الثالثة خدوج، التي تزوجها وعمرها 15 سنة، ورزق منها بثلاث أطفال، وهم: ادريس الملقب بالأمريكاني لشعره الأشقر وملامحه الغربية، وطفلة صغيرة عمرها سنتان آنذاك، ومحمادي الرضيع، في حين تقيم زوجته الأولى حدوما في المنزل القديم للعائلة في مدشر قريب يدعى ارعص، مع أبنائها الخمسة، وتقطن معهم هناك ابنته من زوجة الثانية، التي طلقها بعد سنتين من الزواج لاشتباهه في ممارستها السحر والشعودة بسبب غيرتها من زوجته الأولى(24).
أتيح لأورسولا فرصة حضور حفل زفاف ارقية ابنة أخت موحند، وهي من المناسبات السعيدة التي يحتفل بها المجتمع الريفي، وتدوم ثلاثة أيام. في اليومين الأولين يكون الاحتفال خاص بأفراد العائلتين فقط، ولا يُستدعى أهل القرية إلا في الحفل الكبير الذي يقام في اليوم الثالث(25)، وقد كانت المناسبة فرصة للترحاب بالضيفين دافيد وزوجته التي نقلت بتفصيل العادات والتقاليد والطقوس المتعلقة بهذا الاحتفال. وشاركت -وهي المتزوجة- في جولة موكب الزفاف الخاص بالفتيات العازبات، حيث يقمن بالطواف على منازل الدوار لدعوة أمثالهن لحضور العرس وهن يرددن الأهازيج المعهودة ومنها “أيا رالا بويا” التي تتردد باستمرار، ويرتدين بهذه المناسبة أحراز على الرأس الممنوع ارتداؤه على المتزوجات، وتعد هذه الزيارات من الفرص النادرة في حياة الريفيات للحصول على نوع من الحرية، فهي الاستثناء لخروج الفتاة من منزلها لشيء آخر غير جلب الماء والحشائش. وقد فرض العمل الميداني على أورسولا ضرورة التزين على الطريقة الريفية لمرافقتهن، وهو ما أثار تهكم زوجها الأنتروبولوجي.
في اليوم الثالث أصبح الفناء غاصا بالنساء المتزينات، ويسمح في هذا اليوم مشاركة الفتيات العازبات فيه بالرقص المحلي أمام الشباب الحاضرين، فهي الفرصة لظهورهن، لذلك لا يمكن تفويتها. فإذا اختارت فتاة شابا ما ترقص أمامه وتستفزه، وإذا كانت أكثر جرأة فإنها تتغنى باسمه. آنذاك يبدأ الأحباب في المشاورات الأولى لكي يتم الزواج. أما النساء المتزوجات فيمكثن في الغرف المظلمة يتفرجن من الأبواب المفتوحة، كما يقمن بتحضير الشاي، ويحدث في الفترات المتأخرة من الليل انتقال الاحتفالات إلى الخارج، ثم بعد انتهاء طقس الحناء، تنقل العروس على بغلة، إلى بيت زوجها مصحوبة بجوق موسيقي يسمى امذيازن يعزف ويقرع الطبول بحيوية(26).
بعد هذه التجربة السعيدة، التي عاشتها أورسولا عن كثب، تنقل إلينا تجربة مغايرة تماما، ذلك أن من عادة أسرة موحند زيارة ارعاص نهاية فصل الربيع، وهو المكان الذي ولد فيه، وبه يوجد المنزل الذي تقطن فيه زوجته الأولى حدومة. وهناك تعرفت إليها عن قرب، وسمعت حكايتها، التي روتها بالتفصيل في متن الكتاب، وحدث في أحد الأيام أن اتجهت نسوة العائلة إلى العين، وفي طريق العودة، وهي تحمل قلة الماء على ظهرها، سقطت حدومة بكامل جسمها على الطريق، ولم تجد محاولات الإسعاف التي قامت بها أورسولا والنسوة في شيء، فقد ماتت المرأة وسط ذهول الجميع، وتمت المناداة على زوجها الذي حمل الجثة إلى المنزل بمساعدة أقربائها. وقد عم الحزن وسط النساء والأطفال، فالجميع يبكي بصوت ينخفض ويعلو لمرات عديدة، وقد شاركتهن أورسولا البكاء، وتأثرت بالحدث، وروت تفاصيل الطقوس المرافقة لعمليات الدفن.
عجلت وفاة حدومة بمغادرة موحند وعائلته ارغاص، وبعد الوصول إلى منزله في أرعطاف استمرت الحياة كما العادة، دون أن يكون لموت حدومة وقع كبير. وجاءت لحظة المغادرة مع انتهاء العمل الميداني لدايف، وكانت لحظة الفراق صعبة ومؤلمة على أورسولا، التي أصبحت فردا من العائلة التي استقبلتها لأزيد من سنتين، حتى أنها تعودت عليهن وتعودوا على وجودها. تقول واصفة هذه اللحظة: “رافقتني السيدات حتى الباب الرئيسي، أول من ودعتها ارحيمو التي قبلتني وعانقتني بشدة وهي تمسح عينيها، بعدها وضعت في يدي قدرا من الطين كان يعجبني كثيرا، وكانت تستغله لحفظ اللوز. كنت أحاول أن أتشجع كي لا أظهر حزني، لكن حين نظرت إلي الأخريات وقد غمرت الدموع أعينهن ضعفت، تبادلنا القبل والدموع تنهمر من خدودنا. خرجت من الباب وصعدت إلى اللاندروفر….نظرنا إلى المنزل، لم نر سوى الباب الكبير وهو موصد ووراءه يختفي الفناء والنساء والحياة التي تغلي بداخله..بقينا صامتين في السيارة ونحن نسير في طريق غير معبدة وكثيرة المنعرجات . ما عسانا أن نقول؟ كان لنا نفس الإحساس، وكنا نتساءل متى -إن كان ذلك ممكنا- سنرجع مرة أخرى إلى تلك المنطقة من الريف؟ مكان كان يعني لنا الشيء الكثير ، ليس في حدود العمل الانتربولوجي كما هو واضح، بل أكثر من ذلك لأسباب عميقة، وهي العلاقات الإنسانية التي نشأت بيننا والتي كانت في البداية متحفظة، لكنها تغيرت إلى حميمية وعزيزة”(27).
بعد اثنين وعشرين سنة من مغادرتهما الريف آخر مرة، عادا ثانية إليها أواخر الثمانينيات. وقد تحدثت أورسولا في خاتمة كتابها عن فحوى هذه الزيارة الأخيرة واصفة في خطوط عريضة ما جرى خلال العقدين من تغيرات: فموحند غادر إلى أوربا سنة 1968، واستقر بهولندا حيث يوجد أقرباؤه، ولم يكن الوحيد من منطقة الريف، فأعداد المهاجرين تصاعدت بعد الستينيات إلى الجزائر وأوربا التي كانت في أمس الحاجة إلى اليد العاملة، وبين سنة استقراره بهولندا وسنة عودته إلى الريف نهائيا بعد وفاة والدته سنة 1985 كان موحند يمر ببيت دافيد وزوجته في اسبانيا بمعدل مرة كل سنة. وخلالها كان يطلعهما على التغيرات التي تجري في ارعطاف، حيث التمدن السريع و التوسع العمراني.
في سنة 1987 قرر دايف زيارة الريف بغرض نسخ وترجمة وثيقة مكتوبة بالعربية عبارة عن شجرة عائلة موحند التي تتضمن السلالة القبلية ونسبه الشريف من جهة أمه، وكان الهدف من ذلك إدراجها إلى جانب وثائق ريفية أخرى وإصدارها في كتاب. أرسل دايف لموحند تلغرافا يعلمه بقدومه مع زوجته أورسولا، وعلى طول الطريق من طنجة إلى الحسيمة، تصف المؤلفة حقول القنب الهندي التي انتشرت على طول حدود كتامة، والبنايات العشوائية المرتفعة في كل الأسواق التي مرت بها. وعند الوصول إلى الحسيمة انتظرا أمام المكان المتفق عليه قدوم موحند لساعات دون جدوى، فذهبا في اتجاه سوق أربعاء توريرت، وعبَّرا عن شعورهما بالحزن وهما يشاهدان امزورن وقد تحولت إلى غابة إسمنتية. ولارتفاع منسوب مياه نهر نكور لم يستطيعا الوصول إلى ارعطاف، فاتجها إلى بني بوعياش حيث علما أن موحند يعيش هناك منذ ستة أشهر مع ابنه الأصغر، وبعد السؤال توصلا إلى منزله بسهولة، ولم يكن هناك. انتظراه في أحد المقاهي، وبعد ساعتين ظهر أمامهما وهو يقود سيارة مرسيديس كبيرة. لقد توصل بالتلغراف غير أنه لم يهتم كما في السابق، ولم تكن هناك دعوة لشرب الشاي أو الأكل، وكان ذلك -في نظرها- تقصيرا غير معهود بواجب الضيافة. وخلال أسبوع قضياه هناك لم يأخذهما موحند لزيارة نساء العائلة.
تغيرت أشياء كثيرة في الريف بفعل الهجرة، فبعض الأزواج تركوا نساؤهم، وتزوجوا بأجنبيات في أوربا، وغالبية الشباب ممن لم يهاجر عاطل عن العمل، وبعضهم مدمن على استهلاك الحشيش والجلوس بالمقاهي في انتظار فرصة للعبور إلى الضفة الأخرى، والفلاحة متأخرة بالرغم من العملة الصعبة التي تدرها الهجرة. ورغم التغيرات التي عرفتها المنطقة بعد تصاعد هجرة الريفيين للعمل في الجزائر وأوربا، فإن التقاليد والعادات المرتبطة بالحريم والمناسبات لم يطرأ عليها إلا تغييرات بسيطة، لأن النساء لم يكن قد انخرطن بعد في الهجرة. ولهذا السبب، فإن الحياة بالنسبة لهن بقيت مستقرة كما كانت من قبل، محتجبة وراء باب فناء المنزل(28).
شكلت العودة الثانية لأورسولا إلى منطقة الريف صدمة ثقافية لها، وظلت تبذل جهدها لنسيان ذلك الأسبوع السيئ الذكر الأخير لها هناك. ففي السنوات الأخيرة من عمرها ظلت تتذكر ريفها كما كان من قبل أثناء الأيام الرائعة من عملهما الميداني، أما زوجها فقد عاد مرة أخيرة بعد وفاتها إلى الريف، وكان ذلك صيف عام 2000، حيث نظم حفل تكريمي على شرفه من طرف إحدى الجمعيات الثقافية المحلية في امزورن(29).
استطاعت أورسولا بأسلوبها الروائي وبمنهجها الأنتربولوجي التأريخ لعادات المنطقة، ونقل ثقافة المرأة الريفية ومواقفها من قضايا متعددة: الزواج، والولادة، والأعمال المنزلية، والمدرسة؛ فهي تؤمن بشكل مطلق بالقدر، وبقوة تأثير السحر، وبقدرة الأولياء على الشفاء من الأمراض العضوية، وتعتقد في الطب الشعبي، وفي نفس الوقت تتوجس من فكرة إرسال الأطفال إلى المدرسة.
خاتمة: قدم كتاب الحياة اليومية للنساء الريفيات خدمة كبيرة لتاريخ الأسرة المغربية، فقد سجل عن قرب الحياة في الريف قبل انتشار المدارس وتطور وسائل المواصلات، وذلك بعفوية مطلقة، وبطريقة سينيمائية رائعة، يخال معها القارئ أن الأوراق التي أمامه في هذا الكتاب إنما هي وثائقيات مرئية أنجزت بتقنيات الصورة الحديثة، خاصة وأن المؤَلَف يضم في النهاية ملحقا للصور تجعل القارئ ينتقل بعفوية من النص إلى الصورة لاكتشاف القسمات الحقيقية لشخصيات الكتاب، حيث تحضر بكل عفوية الأحاسيس الحية والهواجس العاطفية والانفعالات والاحباطات وقسمات الوجوه الصادقة في حيرتها وبؤسها وسعادتها، والزوايا بكل تفاصيلها الدقيقة والألوان بكل رمزيتها، والطبيعة بكل ودها وبشاعتها من خلال تركيزها على حياة أسرة محددة، ويتمثل أحد إنجازات المؤلفة الدالة على نجاحها في استخلاص العديد من التفاصيل والمعلومات الدقيقة حول الحياة العائلية الخاصة وعالم العواطف والأحاسيس، وهي مجالات يبقيها الريفيون عادة قيد الكتمان ويخفونها وراء ستار الصمت(30). لذا فإن هذا الكتاب يعد بحق مصدرا أساسيا عن تقاليد وعادات النساء في منطقة الريف المغربي قبل نصف قرن.
ترجمة : عبد الله الجرموني
ازدادت أورسولا كينغسميل هارتURSULA KINGSMILL HART في الهند سنة 1920 من أبوين بريطانيين، وترعرعت في المغرب الذي ظلت تعتبره دائما وطنها الأول، وقد كانت تزوره باستمرار.
أنجبت ثلاثة أبناء من زواج لم يكتب له النجاح، قبل أن تلتقي في سنة 1958 بالأنتروبولوجي الأمريكي دافيد مونتغمري هارت DAVID MONTGOMRY HARTفي مدينة طنجة، تزوجت به، ورافقته إلى منطقة الريف شمال المغرب، حيث كان يقوم ببحث ميداني عن قبيلة أيث ورياغر، وقد احتضنتهما هناك عائلة «موحند»من مدشر أرعطاف، على بعد 12 كلم من سوق أربعاء أيث توريرت في اتجاه منبع واد النكور، وموحند هذا هو الاسم المستعار لمساعد دافيد هارت ومخبره الرئيسي وترجمانه(1)، وأكثر من ذلك صديقه منذ أربع سنوات خلت، عندما كان دافيد مايزال عازبا. وكان من نتائج هذه الرحلة الميدانية عملين اثنين رائعين، الأول للزوج دافيد هارت عن أيث ورياغر قبيلة من الريف المغربي دراسة اثنوغرافية وتاريخية(3). والثاني للزوجة أورسولا عن الحياة اليومية للنساء الريفيات(4).
استلهم هارت في أطروحته عن أيث ورياغر عناصر المنظومة الانقسامية مع إدخال تعديلات على بعض جوانبها. وقد شكلت دراسته الميدانية هذه حقلا خصبا لتطوير النظرية الانقسامية، غير أنه أعلن لاحقا تراجعه عنها، وذلك في مقدمة الطبعة الأخيرة من كتابه،حيث أكد بشكل واضح عدم ملائمة تطبيق هذه النظرية على هذه القبيلة، وهو الأمر الذي يمكن اعتباره تحولا لافتا للانتباه. فقد انتقل من موقف مؤيد إلى موقف مضاد للنظرية الانقسامية كما قدمها سلفه افنس بريتشارد Evans-Pritchard في دراسته عن قبائل النوير بالسودان.
لقد استفاد دافيد هارتمن سيل الانتقادات التي وجهها إليه الأنتربولوجي الأمريكي هنري مونسون(5)، واستفاد من كل الملاحظات التي وُجِّهَتْ للنظرية الانقسامية سواء من طرف جاك بيرك، أو جرمان عياش، أو عبد الله العروي، أو عبد الله حمودي. ففي مقدمته الخاصة بالنسخة العربية راجع التصور المحوري الذي دافع عنه. وأعلن لأول مرة في هذه المقدمة الجديدة عن تخليه بشكل كبير عن جوهر الانقسامية، وأقر بعدم صلاحية تطبيق هذا النموذج على قبيلة بني ورياغر، وقد اعترف بالأخطاء التي ارتكبها في تحليلاته للبنية الاجتماعية الريفية، وعمل على إدخال العديد من التغييرات عليها(6). إنه تحول حاسم في فكر أحد أهم المدافعين السابقين الشرسين والمؤيدين لأطروحة النظرية الانقسامية للسلالة نحو موقف معاكس تماما، أي مضاد للانقسامية، ويعود السبب الأساسي في هذا التحول إلى المعطيات التي جمعها بشأن النزاع الدموي الذي وقع بين سلالتين من أيث ورياغر، وهي امجاط وأولاد الحاج امعاوش. لقد طرح هذا النزاع إشكالية حقيقية لمونتغمري هارت، فالنزاع الذي نشب فجأة بين السلالتين تحول من صراع خارجي إلى انتقام داخلي مميت بين أعضاء سلالة امجاط. وهذه الحالة أبرزت في نظره سلوكا مضادا للانقسامية، إذ تم تجاهل المبدأ الأساسي للقرابة العاصبة في هذا المثال(7).
خلص دافيد هارت من خلال نقد ذاتي لأطروحته إلى التمييز بين الانقسام الذي لازال مفهوما مقبولا لديه، وبين المفهوم الضيق للنظرية الانقسامية للسلالة كما طرحها افنس بريتشارد، وانتقد أيضا العديد من المعايير والشروط التي عددها بريتشارد بشأن مفهوم القبيلة، وخصوصا المعيار المتعلق بالتوازن والتعارض أو الانصهار والانشطار بين أجزاء القبيلة. لقد أثبت أن هذا المبدأ غير قابل للتحقق دائما، رغم أن هذا الشرط ظل مرتكزا أساسيا في النظرية الانقسامية، وقد وضح في نفس السياق أن خاصية المساواة لا توجد في جميع القبائل دائما، فبواحات درعة وواحة تافيلالت يمكن التمييز بين الشرفاء في الأعلى، وهم الذين يقومون بدور التحكيم، وامازيغن في الوسط، والحرطانين السود المزارعين في المرتبة السفلى، وأكد أن امرابطن كانوا يتقاتلون فيما بينهم بشكل شرس كما هو الأمر بمنطقة بني ورياغر، وهو ما يعني عدم صلاحية مقولة نزوع هؤلاء الصلحاء دائما إلى السلم، وهي نفس الملاحظة التي سبق أن أبداها عبد الله الحمودي بالنسبة للنزعة السلمية المزعومة للشرفاء، فكثيرا ما انتقل هؤلاء من الدور السلمي إلى الفعل السياسي المرتكز على القوة والحرب(8). ولدينا أيضا مثال شيخ تازروالت الحسين اوهاشم، الذي كان يمثل في منطقة سوس قوة سياسية تُلتمس حمايتها ويُخشى بأسها، وحضوره في تسوية النزاعات التي تقع بين القبائل المحيطة بزاويته كان أمرا ضروريا، لكنه مَثَّلَ في غالب الأحيان طرفا في النزاع أو حليفا للف بعينه، وهو الأمر الذي ينفي صفة الحيادية عن أدواره، فكثيرا ما كان يُسخر مكانته الروحية لبسط هيمنته المادية على المنطقة(9).
إن أهم ما تميز به مؤلف هارت عن قبيلة أيث ورياغر بالحسيمة، تحليله نظام القرابة السائد بالريف بعد المراجعة دون الخضوع لأي نمط من التصنيفات السائدة سواء عند هنري مورغان أو عند بيتر موردوك(10).
إن عمل هارت لم يكن له أن يكتمل دون المساعدة الكبيرة التي قدمتها زوجته(11)، والتي استطاعت، بعد مجهود كبير، اطلاع هارت عن قرب على العالم الداخلي للبيت الريفي الذي كان من المستحيل على الباحث اكتشافه، في ظل تقاليد المنطقة التي تحرم مجرد اقتراب الرجال الأجانب من مجمع النساء، بل مجرد الحديث عنهن أمام الرجال يعد خدشا للحياء، وأمرا غير مسموح به. فموقف الريفيين تجاه المرأة -كما رصدتها أورسولا- جد صارمة، فوجهة نظرهم أكثر صرامة من تلك التي كانت سائدة في العهد الفيكتوري(12). ولذا فقد عاش هارت مدة طويلة في الريف، محترما تقاليد المنطقة، فلم يتعرف أبدا على مظهر نساء عائلة موحند (عمر ازوكاغ)، حيث كان دائما بعيدا عنهن، وكذلك عن باقي النساء، فكان لزاما عليها أن تنسجم مع الريفيات اللواتي لم يكن أقل صلابة من رجالهن، وقد استرشدت بوصايا زوجها الذي علمها أهم قواعد الانتربولوجيا الاجتماعية، وهي في المقام الأول العيش مع الأفراد الذين تدرسهم، والتكلم بلغتهم، وعقد صداقة معهم، والانتباه إلى أبسط التفاصيل وتسجيلها بدقة.
لم تكن البداية سهلة فيما يتعلق بوسط النساء الريفيات، إذ لم تكن أورسولا مقبولة لديهن في البداية -حسب شهادتها- فقد كن ينظرن إليها بريبة وعدم ثقة، وبشيء من العداء، لأنها أجنبية وذات ملابس وشكل غريب عنهن، وعقب زيارات متعددة، بدأن يتعودن عليها، وينظرن إليها كواحدة منهن، خصوصا بعد أن استطاعت تعلم عاداتهن ولهجتهن، ونطق أسمائهن بشكل صحيح، حينئذ فقط أفصحن دون خوف أو خجل عن أحلامهن ومخاوفهن وأسرارهن، فعاشت معهن ما وصفته بمتعة الحياة البسيطة(13)، وسجلت في ذاكرتها بشكل جيد كل ما وجدته غريبا ومختلفا عنها في المسكن الريفي الذي ضمها، اعتمادا على قوة ملاحظتها وحنكتها العملية التي اكتسبتها من زوجها الأنتربولوجي، فاستطاعت بذلك، لاحقا، نقل الكثير من الأسرار الخفية حول الواقع الاجتماعي للمرأة الريفية، بأسلوب مليء بروح الدعابة والحيوية الإنسانية، مخترقة الجدران الموصدة بأقفال من التقاليد والأعراف والعادات المحلية الصارمة.
استفادت أورسولامن تجربتها في البحث الأنتروبولوجي الميداني إلى جانب زوجها،فأصدرت كتابا مستقلا عن الحياة اليومية للنساء الريفيات، بأسلوب أدبي وفني رائع، والكتاب الذي أنجزته نشر أول مرة سنة 1994 باللغة الانجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية(14). وكان قد كتب منذ عشرين سنة من قبل، أي في بداية السبعينات، كسيرة ذاتية في مجملها، وحكي للحياة اليومية لزوجة أنتربولوجي عاشت مدة سنتين خلال أوائل الستينيات وسط أسرة ريفية، ثم ترجم سنة 1998 إلى اللغة الاسبانية بمبادرة من زوجها، ووفاء منه لرغبتها(15)، حيث لم يكتب للراحلة أورسولا متابعة معالم التقدير الذي حظي به بحثها إعلاميا وجمعويا في إسبانيا والمغرب، بحكم أنها توفيت بألميريا الإسبانية قبل أن يترجم كتابها بسنتين(16). وقد خصص زوجها مقدمة مؤثرة لهذه الترجمة، كتبها بعد سنة من وفاتها، وقد عبَّر في عدة مناسبات عن الحماس الذي أبدته زوجته قبل وفاتها لإصدار النسخة الإسبانية، وفي سنة2010 تُرجم الكتاب إلى اللغة العربية.
يلامس الكتاب في خمسة عشر فصلا، عن قرب وعن معايشة دامت سنتين، وضعية المرأة الريفية المعزولة داخل فناء المنزل ومكوناته، ويصور حجم معاناتها في مجتمع تهيمن عليه العقلية الذكورية بشكل مطلق، تمتزج فيه المشاهد والصور التي تتناوب في انسجام تام مع الإيقاع العادي للدورة السنوية الزراعية كما يقول هارت، فالمرأة الريفية تتحمل ضمن هذا الإيقاع أعباء كثيرة ، تبدأ من فترة مبكرة من حياتها، وتتزايد بعد زواجها.
استطاعت أورسولا اختراق عالم مختلف بالنسبة إليها، وهو عالم حياة نساء الريف،وتحملت كل الصعوبات والمشاق في سبيل الاندماج في هذا الوسط الغريب على نمط حياتها السابق، حتى أضحت فردا منهن بعد أن تعلمت لغتهن وتشبعت بتقاليدهن،وقد أطلقوا عليها اسما ريفيا مألوفا هو “مونات”، اختاره لها موحند ودايف من بين أسماء ريفية أخرى لسهولة نطقه، مما يسر لها سبل التواصل معهن بسهولة. وكان نتاج ذلك كتاب وراء باب الفناء، والعنوان مستوحى من الفناء الداخلي المنفتح على السماء مباشرة، والمنغلق في نفس الوقت عن الخارج، والذي تحتوي عليه جميع المنازل الريفية. ويشكل هذا الفضاء العالم الرئيسي الذي تعيش فيه المرأة، وهو محاط من جميع الجوانب بسقيفة مشكلة من القصب المتشابك المستند إلى جذوع أشجار الزيتون والأعمدة الخشبية، وهو يقي النساء من أشعة الشمس صيفا، ومن التساقطات المطرية شتاء، وعلى مسافة قريبة من المنزل بنيت أفران للخبز من فخار وتبن على شكل قبة هرمية.
تصف الكاتبة ما يقع بتفصيل في فضاء الفناء من الداخل، وعن قرب، عاكسة الوضعية الصعبة للمرأة في منطقة الريف في الستينيات من القرن الماضي، حيث كان الريفيون يعيشون حياة بدوية قاسية، في منازل منعزلة ومتباعدة عن بعضها البعض، منخفضة، ومبنية من الطين والحجارة، ومحاطة في جزئها الأكبر بنبات الصبار الذي يحجب كل شيء تقريبا، لأن الريفي يغار على نسائه، ولا يسمح أن ينظر أي غريب إلى عائلته من الإناث، ولو من الجيران، ولذلك فإن كل من يتجاوز سياج نبات الصبار الذي يحيط بمنزل الآخرين ستكون البندقية له بالمرصاد، خصوصا في مجتمع تسود فيه خلافات الثأر(17).
حصل اللقاء الأول لأورسولا مع نسوة موحند بالفناء الداخلي لمنزله، وقد كان الأمر صعبا بالنسبة لها، فقد حاولت أن تتحدث معهن بتوظيف بعض الجمل والكلمات التي تعلمتها من زوجها دايف، غير أنهن كن يسمعنها دون أن يفهمن أي شيء منها، لاعتقادهن أنها تتكلم بلغتها معهن(18)، ثم استمرت محاولاتها التي انتهت في الأخير بتحولها إلى ريفية حقيقية، فقد استطاعت التغلب على الحاجز اللغوي محققة تقدما كبيرا بعد معايشتها للواقع اليومي لهؤلاء النسوة، والانخراط معهن في مختلف الأعمال المنزلية،إذ كان ذلك السبيل الوحيد للاندماج. ولم تخل هذه التجربة من مواقف طريفة؛ ففي إحدى زياراتها لبيت ريفي بالمنطقة، لاحظت كثرة الذباب في الغرفة، ولكسر الصمت وتطبيق ما تعلمته من اللهجة الريفية، أرادت أن تقول “يوجد ذباب كثير هنا”، ونطقت كلمة ذباب، بقولها “إزَّانْ” بالزاي المفخمة بدل إزَانْ، فأثارت الاستياء في البداية، ثم الضحك بين الجميع لأنها إنما كانت في الحقيقة تردد عبارة “يوجد غائط كثير هنا”(19).
يقدم كتاب الحياة اليومية للنساء الريفيات معطيات بيوغرافية دقيقة عن عائلة موحند (عمر ازوكاغ)، ووصفا لملامحهن، وملابسهن، ووظائفهن داخل المنزل وخارجه، وتنقل لنا أورسولا من خلاله حواراتها اليومية معهن، وطريقة تفكيرهن، وتصوراتهن عن قضايا نسوية خاصة. فأسرة موحند تتكون من والدته ارحيمو، التي تعاني من ضعف البصر، وأخته يامنة، التي كانت أكثرهن رفضا لتواجد أورسولا بينهن في البداية، مما جعلها تقوم بمجهود أكبر للتقرب منها وكسب ثقتها. ومن الواضح أن هذه الشخصية كانت مبعث كدر وتنغيص في العائلة، فهي تبحث دائما عن خلق المشاكل لأتفه الأسباب، يقيم زوجها في أوربا، غير أنها لا تقيم في بيت عائلته، لأنها لم تستطع بناء علاقة جيدة مع حماتها، وتصر أن تصحبه إلى فرنسا(20). أما أختها الصغرى اروازنة، والبنت المفضلة لدى أمها، فهي على النقيض تماما من أختها، إلا أنها تعاني من حزن دائم لمرور ثلاث سنوات على زفافها دون أن تنجب، مما يضعها في موقف حرج أمام عائلة زوجها عبد الرحمان، الذين يعملون على تأليبه لتطليقها أو الزواج من أخرى(21)، فالعقم في المجتمع الريفي يجعل حياة النساء مليئة بالمحن، إذ وضعية المرأة مرتبطة بإنجاب عدد كبير من الأطفال وخصوصا الذكور، ولذلك فإن اروازنة تعبت من ترديد التمائم وتناول الخلطات التي تعدها النساء المسنات دون جدوى، وكانت تظن أنها مسحورة من قبل فتاة كانت تريد أن تصبح الزوجة الثانية لعبد الرحمان(22). ورغم أن دافيد كان يوصي زوجته أورسولا بعدم التدخل والاكتفاء بالحياد والملاحظة، إلا أنها ألحت عليه بالحديث مع عبد الرحمان ليسمح لزوجته بالذهاب إلى الحسيمة لتفحصها الطبيبة، وقد وافق بعد تردد كبير. ولم تكن أي من نساء موحند قد رأين مدينة الحسيمة أو البحر قط، كما لم يخضن سابقا أي تجربة للسفر عبر السيارة، وقد كللت المهمة بالنجاح، فبعد معاينتها من قبل الطبيبة أخبرتها أنها بحاجة إلى إجراء عملية بسيطة لتكون قادرة على الإنجاب(23). وتقيم مع موحند في بيته زوجته الثالثة خدوج، التي تزوجها وعمرها 15 سنة، ورزق منها بثلاث أطفال، وهم: ادريس الملقب بالأمريكاني لشعره الأشقر وملامحه الغربية، وطفلة صغيرة عمرها سنتان آنذاك، ومحمادي الرضيع، في حين تقيم زوجته الأولى حدوما في المنزل القديم للعائلة في مدشر قريب يدعى ارعص، مع أبنائها الخمسة، وتقطن معهم هناك ابنته من زوجة الثانية، التي طلقها بعد سنتين من الزواج لاشتباهه في ممارستها السحر والشعودة بسبب غيرتها من زوجته الأولى(24).
أتيح لأورسولا فرصة حضور حفل زفاف ارقية ابنة أخت موحند، وهي من المناسبات السعيدة التي يحتفل بها المجتمع الريفي، وتدوم ثلاثة أيام. في اليومين الأولين يكون الاحتفال خاص بأفراد العائلتين فقط، ولا يُستدعى أهل القرية إلا في الحفل الكبير الذي يقام في اليوم الثالث(25)، وقد كانت المناسبة فرصة للترحاب بالضيفين دافيد وزوجته التي نقلت بتفصيل العادات والتقاليد والطقوس المتعلقة بهذا الاحتفال. وشاركت -وهي المتزوجة- في جولة موكب الزفاف الخاص بالفتيات العازبات، حيث يقمن بالطواف على منازل الدوار لدعوة أمثالهن لحضور العرس وهن يرددن الأهازيج المعهودة ومنها “أيا رالا بويا” التي تتردد باستمرار، ويرتدين بهذه المناسبة أحراز على الرأس الممنوع ارتداؤه على المتزوجات، وتعد هذه الزيارات من الفرص النادرة في حياة الريفيات للحصول على نوع من الحرية، فهي الاستثناء لخروج الفتاة من منزلها لشيء آخر غير جلب الماء والحشائش. وقد فرض العمل الميداني على أورسولا ضرورة التزين على الطريقة الريفية لمرافقتهن، وهو ما أثار تهكم زوجها الأنتروبولوجي.
في اليوم الثالث أصبح الفناء غاصا بالنساء المتزينات، ويسمح في هذا اليوم مشاركة الفتيات العازبات فيه بالرقص المحلي أمام الشباب الحاضرين، فهي الفرصة لظهورهن، لذلك لا يمكن تفويتها. فإذا اختارت فتاة شابا ما ترقص أمامه وتستفزه، وإذا كانت أكثر جرأة فإنها تتغنى باسمه. آنذاك يبدأ الأحباب في المشاورات الأولى لكي يتم الزواج. أما النساء المتزوجات فيمكثن في الغرف المظلمة يتفرجن من الأبواب المفتوحة، كما يقمن بتحضير الشاي، ويحدث في الفترات المتأخرة من الليل انتقال الاحتفالات إلى الخارج، ثم بعد انتهاء طقس الحناء، تنقل العروس على بغلة، إلى بيت زوجها مصحوبة بجوق موسيقي يسمى امذيازن يعزف ويقرع الطبول بحيوية(26).
بعد هذه التجربة السعيدة، التي عاشتها أورسولا عن كثب، تنقل إلينا تجربة مغايرة تماما، ذلك أن من عادة أسرة موحند زيارة ارعاص نهاية فصل الربيع، وهو المكان الذي ولد فيه، وبه يوجد المنزل الذي تقطن فيه زوجته الأولى حدومة. وهناك تعرفت إليها عن قرب، وسمعت حكايتها، التي روتها بالتفصيل في متن الكتاب، وحدث في أحد الأيام أن اتجهت نسوة العائلة إلى العين، وفي طريق العودة، وهي تحمل قلة الماء على ظهرها، سقطت حدومة بكامل جسمها على الطريق، ولم تجد محاولات الإسعاف التي قامت بها أورسولا والنسوة في شيء، فقد ماتت المرأة وسط ذهول الجميع، وتمت المناداة على زوجها الذي حمل الجثة إلى المنزل بمساعدة أقربائها. وقد عم الحزن وسط النساء والأطفال، فالجميع يبكي بصوت ينخفض ويعلو لمرات عديدة، وقد شاركتهن أورسولا البكاء، وتأثرت بالحدث، وروت تفاصيل الطقوس المرافقة لعمليات الدفن.
عجلت وفاة حدومة بمغادرة موحند وعائلته ارغاص، وبعد الوصول إلى منزله في أرعطاف استمرت الحياة كما العادة، دون أن يكون لموت حدومة وقع كبير. وجاءت لحظة المغادرة مع انتهاء العمل الميداني لدايف، وكانت لحظة الفراق صعبة ومؤلمة على أورسولا، التي أصبحت فردا من العائلة التي استقبلتها لأزيد من سنتين، حتى أنها تعودت عليهن وتعودوا على وجودها. تقول واصفة هذه اللحظة: “رافقتني السيدات حتى الباب الرئيسي، أول من ودعتها ارحيمو التي قبلتني وعانقتني بشدة وهي تمسح عينيها، بعدها وضعت في يدي قدرا من الطين كان يعجبني كثيرا، وكانت تستغله لحفظ اللوز. كنت أحاول أن أتشجع كي لا أظهر حزني، لكن حين نظرت إلي الأخريات وقد غمرت الدموع أعينهن ضعفت، تبادلنا القبل والدموع تنهمر من خدودنا. خرجت من الباب وصعدت إلى اللاندروفر….نظرنا إلى المنزل، لم نر سوى الباب الكبير وهو موصد ووراءه يختفي الفناء والنساء والحياة التي تغلي بداخله..بقينا صامتين في السيارة ونحن نسير في طريق غير معبدة وكثيرة المنعرجات . ما عسانا أن نقول؟ كان لنا نفس الإحساس، وكنا نتساءل متى -إن كان ذلك ممكنا- سنرجع مرة أخرى إلى تلك المنطقة من الريف؟ مكان كان يعني لنا الشيء الكثير ، ليس في حدود العمل الانتربولوجي كما هو واضح، بل أكثر من ذلك لأسباب عميقة، وهي العلاقات الإنسانية التي نشأت بيننا والتي كانت في البداية متحفظة، لكنها تغيرت إلى حميمية وعزيزة”(27).
بعد اثنين وعشرين سنة من مغادرتهما الريف آخر مرة، عادا ثانية إليها أواخر الثمانينيات. وقد تحدثت أورسولا في خاتمة كتابها عن فحوى هذه الزيارة الأخيرة واصفة في خطوط عريضة ما جرى خلال العقدين من تغيرات: فموحند غادر إلى أوربا سنة 1968، واستقر بهولندا حيث يوجد أقرباؤه، ولم يكن الوحيد من منطقة الريف، فأعداد المهاجرين تصاعدت بعد الستينيات إلى الجزائر وأوربا التي كانت في أمس الحاجة إلى اليد العاملة، وبين سنة استقراره بهولندا وسنة عودته إلى الريف نهائيا بعد وفاة والدته سنة 1985 كان موحند يمر ببيت دافيد وزوجته في اسبانيا بمعدل مرة كل سنة. وخلالها كان يطلعهما على التغيرات التي تجري في ارعطاف، حيث التمدن السريع و التوسع العمراني.
في سنة 1987 قرر دايف زيارة الريف بغرض نسخ وترجمة وثيقة مكتوبة بالعربية عبارة عن شجرة عائلة موحند التي تتضمن السلالة القبلية ونسبه الشريف من جهة أمه، وكان الهدف من ذلك إدراجها إلى جانب وثائق ريفية أخرى وإصدارها في كتاب. أرسل دايف لموحند تلغرافا يعلمه بقدومه مع زوجته أورسولا، وعلى طول الطريق من طنجة إلى الحسيمة، تصف المؤلفة حقول القنب الهندي التي انتشرت على طول حدود كتامة، والبنايات العشوائية المرتفعة في كل الأسواق التي مرت بها. وعند الوصول إلى الحسيمة انتظرا أمام المكان المتفق عليه قدوم موحند لساعات دون جدوى، فذهبا في اتجاه سوق أربعاء توريرت، وعبَّرا عن شعورهما بالحزن وهما يشاهدان امزورن وقد تحولت إلى غابة إسمنتية. ولارتفاع منسوب مياه نهر نكور لم يستطيعا الوصول إلى ارعطاف، فاتجها إلى بني بوعياش حيث علما أن موحند يعيش هناك منذ ستة أشهر مع ابنه الأصغر، وبعد السؤال توصلا إلى منزله بسهولة، ولم يكن هناك. انتظراه في أحد المقاهي، وبعد ساعتين ظهر أمامهما وهو يقود سيارة مرسيديس كبيرة. لقد توصل بالتلغراف غير أنه لم يهتم كما في السابق، ولم تكن هناك دعوة لشرب الشاي أو الأكل، وكان ذلك -في نظرها- تقصيرا غير معهود بواجب الضيافة. وخلال أسبوع قضياه هناك لم يأخذهما موحند لزيارة نساء العائلة.
تغيرت أشياء كثيرة في الريف بفعل الهجرة، فبعض الأزواج تركوا نساؤهم، وتزوجوا بأجنبيات في أوربا، وغالبية الشباب ممن لم يهاجر عاطل عن العمل، وبعضهم مدمن على استهلاك الحشيش والجلوس بالمقاهي في انتظار فرصة للعبور إلى الضفة الأخرى، والفلاحة متأخرة بالرغم من العملة الصعبة التي تدرها الهجرة. ورغم التغيرات التي عرفتها المنطقة بعد تصاعد هجرة الريفيين للعمل في الجزائر وأوربا، فإن التقاليد والعادات المرتبطة بالحريم والمناسبات لم يطرأ عليها إلا تغييرات بسيطة، لأن النساء لم يكن قد انخرطن بعد في الهجرة. ولهذا السبب، فإن الحياة بالنسبة لهن بقيت مستقرة كما كانت من قبل، محتجبة وراء باب فناء المنزل(28).
شكلت العودة الثانية لأورسولا إلى منطقة الريف صدمة ثقافية لها، وظلت تبذل جهدها لنسيان ذلك الأسبوع السيئ الذكر الأخير لها هناك. ففي السنوات الأخيرة من عمرها ظلت تتذكر ريفها كما كان من قبل أثناء الأيام الرائعة من عملهما الميداني، أما زوجها فقد عاد مرة أخيرة بعد وفاتها إلى الريف، وكان ذلك صيف عام 2000، حيث نظم حفل تكريمي على شرفه من طرف إحدى الجمعيات الثقافية المحلية في امزورن(29).
استطاعت أورسولا بأسلوبها الروائي وبمنهجها الأنتربولوجي التأريخ لعادات المنطقة، ونقل ثقافة المرأة الريفية ومواقفها من قضايا متعددة: الزواج، والولادة، والأعمال المنزلية، والمدرسة؛ فهي تؤمن بشكل مطلق بالقدر، وبقوة تأثير السحر، وبقدرة الأولياء على الشفاء من الأمراض العضوية، وتعتقد في الطب الشعبي، وفي نفس الوقت تتوجس من فكرة إرسال الأطفال إلى المدرسة.
خاتمة: قدم كتاب الحياة اليومية للنساء الريفيات خدمة كبيرة لتاريخ الأسرة المغربية، فقد سجل عن قرب الحياة في الريف قبل انتشار المدارس وتطور وسائل المواصلات، وذلك بعفوية مطلقة، وبطريقة سينيمائية رائعة، يخال معها القارئ أن الأوراق التي أمامه في هذا الكتاب إنما هي وثائقيات مرئية أنجزت بتقنيات الصورة الحديثة، خاصة وأن المؤَلَف يضم في النهاية ملحقا للصور تجعل القارئ ينتقل بعفوية من النص إلى الصورة لاكتشاف القسمات الحقيقية لشخصيات الكتاب، حيث تحضر بكل عفوية الأحاسيس الحية والهواجس العاطفية والانفعالات والاحباطات وقسمات الوجوه الصادقة في حيرتها وبؤسها وسعادتها، والزوايا بكل تفاصيلها الدقيقة والألوان بكل رمزيتها، والطبيعة بكل ودها وبشاعتها من خلال تركيزها على حياة أسرة محددة، ويتمثل أحد إنجازات المؤلفة الدالة على نجاحها في استخلاص العديد من التفاصيل والمعلومات الدقيقة حول الحياة العائلية الخاصة وعالم العواطف والأحاسيس، وهي مجالات يبقيها الريفيون عادة قيد الكتمان ويخفونها وراء ستار الصمت(30). لذا فإن هذا الكتاب يعد بحق مصدرا أساسيا عن تقاليد وعادات النساء في منطقة الريف المغربي قبل نصف قرن.