الأربعاء، 16 أغسطس 2023

زيارة ميدانية إلى "كدية الشوك" أو "ثاورياث نفايرا" التي شهدت أقوى المعارك في الخمسينيات




تعرض المغرب، كباقي دول إفريقيا، خلال القرن التاسع عشر للأطماع الاستعمارية، بعدما كان عرضة لمجموعة من الضغوطات الاقتصادية والدبلوماسية التي زادت من تفاقم أوضاعه الداخلية واشتعال الثورات والأزمات السياسية ببعض الجهات.

بالفعل لقد اشتد التنافس الأوروبي على المغرب من اجل استغلال خيراته الطبيعية والمعدنية والبشرية، حيث تمكنت فرنسا واسبانيا بموجب مقررات مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 من اقتسام جغرافية المغرب وتوزيع مناطقه.هذا، وبعد توقيع معاهدة الحماية بفاس سنة 1912 بدأت فرنسا في تنفيذ مخططها الاستعماري والسيطرة العسكرية على جيوب المقاومة التي اندلعت في الجنوب والشمال والغرب والشرق تحت قيادة أبطال ورجالات أشاوس وقفوا في وجه التغلغل الفرنسي بالأراضي المغربية، حيث انتفضت القبائل في جميع ربوع المملكة ضد الوجود الاستعماري بها.

وفي هذا الصدد، أشار "اوكستان بيرنار" في كتابه "فرنسا في المغرب" إلى أهمية ضرورة الاستيلاء على المواقع الإستراتيجية لتيسير مهمة التدخل وتهدئة الأوضاع، خاصة بالمناطق التي تشكل أهدافا أساسية في المخطط الاستعماري الفرنسي الطامح إلى احتواء وإخضاع شمال إفريقيا من تونس إلى الدار البيضاء.


ولتحقيق هذا المبتغى، كان لزاما على اليوطي أن يؤمن السيطرة على الطريق الرابطة بين الجزائر المستعمرة والمغرب مرورا بتازة حيث اشتدت المقاومة وقامت القبائل بتنظيم صفوفها من اجل الوقوف أمام زحف الفرنسيين من الشرق والغرب. وفي هذا السياق صرح اليوطي " تازة قبل كل شيء" وأضاف بيرانار قائلا "طالما أن هذه الطريق ليست في أيدينا فان وحدة إمبراطوريتنا تبقى غير تامة".

وفي سنة 1914 و رغم الجهاد الذي تبنته قبائل تازة لإيقاف زحف الفرنسيين على الإقليم، استطاعت قوات اليوطي من الدخول إلى تازة بعد جهد كبير اعتمد على خطة مزدوجة اقتضت الهجوم على المدينة من جهتي الشرق والغرب بقيادة الجنرالين "كورو" و" بومكارطن". إلا أن فرحة الفرنسيين لن تطول كثيرا، إذ كان عليها تهدئة المناطق الجبلية من الإقليم ، خاصة بالريف حيث قبيلة اجزناية المجاهدة.


وسنحاول في هذا المقال التركيز على نضال هذه القبيلة من أجل تحرير البلاد بعد مرحلة من الخضوع دامت حوالي ثلاثين سنة (1925-1955).


إذ ستندلع يوم ثاني أكتوبر 1955 ثورة مشهودة ستقوض آمال الفرنسيين في البقاء بالمغرب بفضل بسالة جيش التحرير الذي أبلى البلاء الحسن في استرجاع الحرية والاستقلال.


فكيف كانت نشأة وانطلاقة هذا الجيش، وماهي أهم العمليات التي قام بها من أجل وإجلاء المستعمر الغاشم عن المغرب برمته؟.

I - ظروف تأسيس جيش التحريربمنطقة الريف
تاريخيا، ارتبطت قصة جيش التحرير بجبال الريف بقبيلة اجزناية تحديدا مع مطلع الخمسينات (1953-1955)، بعدما عاش المغرب مدة من الحجر والهوان والاستعباد تحت وطأة الاحتلال الأجنبي لمدة تجاوزت ثلاثين سنة.


في البداية، قام مجموعة من الرجال والأبطال الأشاوس بتأسيس قيادة عسكرية بمدينة الناظور، يعني في المنطقة الخاضعة للنفوذ الاسباني، تفاديا للمطاردات والتحقيقات الفرنسية، وذلك بعدما انتهت المقاومة المسلحة وعدم جدواها أمام قوة العتاد الحربي الفرنسي، وظهر أن وتيرة العمليات الفدائية لا يمكن أن تعجل بجلاء المستعمر الغاشم. لقد أضحى نقل ميدان المعركة إلى الجبال في الريف تحديدا ضرورة لا مناص منها. ومن هنا جاءت فكرة تأسيس عدة تنظيمات عسكرية لمباغتة العدو على جبهات مختلفة.

كان الهدف الأساس من وراء إحداث هذه الخليات المناضلة هو الغيرة والرغبة الجامحة في التحرر من قبضة الاستعمار، وذلك مواصلة لمقاومة البطل الكبير عبد الكريم الخطابي التي دارت رحاها في العشرينات من القرض الماضي وهو الأمر الذي كتبته الصحافة الاستعمارية التي أكدت "على ارتباط بين حرب الريف وجيش التحرير، كما أشار المؤرخ الفرنسي "بيير فونتين" كذلك إلى أن عبد الكريم الخطابي هو "مصدر الثورات في شمال إفريقيا... أهل شمال إفريقيا ينظرون إليه كمثل أعلى للمجاهد الشريف القوي الشكيمة الصلب الرادة الذي لا يلين".

ومن أهم المقاومين الذين شاركوا إلى جانب ابن عبد الكريم في حرب الريف الأولى، نذكر المقاوم عبد القادر شطاطو و المقاوم الحسن الزكريتي ثم المقاومين عمر اختو والمقاوم عمر الريفي وكلاهما من جماعة تيزي وسلي، هذا بالإضافة إلى آخرين لا يقلون شجاعة وبسالة كعبد العزيزاقضاض الدوائري والمقاوم الغابوشي العجوري والفقيه عبد السلام الحمداوي وعلي اقضاض...الخ.

هكذا وبعد عدة لقاءات سرية، واتساع دائرة المجاهدين الجزنائيين تأتى لهم الالتقاء بالمناضل عباس المسعيدي على الحدود الوهمية بين فرنسا واسبانيا بمنطقة" ثلاثاء ازلاف"، هذا الذي حثهم على النضال والجهاد، إذ بادر في البداية إلى استقطاب العناصر الذين سبق لهم الاشتغال تحت اللواء الفرنسي كجنود في ألمانيا وايطاليا والهند الصينية للاستفادة من تجربتهم العسكرية ، وكان من بينهم الضابط محمد اختو و الغابوشي العجوري و عبد السلام الذهبي وآخرون.

وقد أنيطت بهؤلاء الجنود الشجعان مهمة تدريب رؤساء الخلايا بمركز القيادة الجهوية بالناظور وبعد ذلك شملت التداريب المتطوعين من أبناء قبيلة اجزناية المرابطين بالمراكز المحلية، وذلك استعدادا ليوم الهجوم الأكبر بالمنطقة. وكانت التداريب تنصب على فك وتركيب الأسلحة وصيانتها، كيفية استعمال الرصاص ثم التصويب على الأهداف.

لكن كيف، وهم لا يملكون من الأسلحة إلا القليل و المتجاوز والقديم غير الصالح؟

وعن مذكرات المجاهد الكبير عبد العزيز أقضاض، أنه خلال اجتماع ب مركز "إيار إمجلا" بحضور عباس المسعدي والخطيب بالإضافة إلى ثلة من قادة قبيلة اجزناية، تم طرح إشكالية التزود بالسلاح. فكان جواب الدكتور عبد الكريم الخطيب" إن السلاح موجود، وسيكون! وكونوا رجالا!! "، إلا أن وعده هذا لم يتحقق أبدا، وما مكننا من مواصلة الثورة .... هو السلاح الذي غنمناه من سلاح العدو". وبالفعل، لقد تمت السيطرة على السلاح في ثكنات الفرنسيين، بعد الهجوم عليها وقتل حراسها. أما الجزء الأول من السلاح فيرتبط بجهة أخرى كان لها الدعم الأساس في عملية توفير السلاح.

ارتبطت قصة السلاح مباشرة بموضوع باخرة دينا القادمة من المشرق ومن القاهرة بالضبط بإيعاز من البطل عبد الكريم الخطابي والرئيس المصري جمال عبد الناصر، لترسو بميناء "كاب دولو"أو ميناء رأس الماء بنواحي مدينة الناظور في مارس 1955. وفي الحقيقة، كانت شحنة الأسلحة المتنوعة موجهة للمجاهدين المغاربة والجزائريين من اجل مواجهة الاستعمار الفرنسي، يوم كان الجهاد مشتركا بين البلدين الشقيقين من اجل التخلص من الاستعمار.

وفي هذا الصدد يكتب عبد الله مقلاتي احد الباحثين الجزائريين أن " هجمات 2 أكتوبر 1955 المنسقة بين جبهة التحرير الوطني وحركة المقاومة المغربية ( تمثل) حدثا كبيرا في تاريخ المقاومة المغاربية الموحدة، كان لها صداها وأثرها الايجابي على تغير السياسة الفرنسية وفرض استقلال المغرب، وعلى الرغم من ذلك لم يلقى هذا الحدث عناية من الباحثين، ورأينا أن نخصص له هذا البحث محاولة منا في التعرف على منعرج حاسم في تاريخ الثورة الجزائرية شهدته منطقة وهران، وذلك اعتمادا على الوثائق المتوفرة والشهادات التي جمعناها في الجزائر والمغرب.

وحسب مذكرات احد الفاعلين في القضية، وهو المناضل عبد الله الصنهاجي فإنه " في 4 مارس 1955، وصلت إلينا الباخرة التي كانت في ملك الأميرة الأردنية دينا، والتي استولى عليها رجال المقاومة بأمر من الرئيس جمال عبد الناصر واحمد بن بلة اللذين عملا على الاستيلاء عليها بغاية استخدامها في حمل الأسلحة إلى شاطئ كبدانة بإقليم الناظور، قادمة إلينا من مصر عبر ليبيا وعلى متنها مختلف أنواع الأسلحة الحديثة التي تفوق من الناحية التقنية الأسلحة الموجودة لدى الجيش الفرنسي المتواجد بالمغرب آنذاك..."

وهكذا تم توزيع هذه الأسلحة في الجانب المغربي على مجموعة من المناطق. وذلك تنفيذا لميثاق "لجنة تحرير المغرب العربي" التي أسسها الأمير عبد الكريم الخطابي في القاهرة في يناير 1948، بمشاركة الأحزاب المغاربية. وحسب الباحث عبد القادر بوراس، فإن الحصص الموزعة على المجاهدين الجزائريين والمغاربة، أهمها كان على الشكل التالي نوع السلاح حصة المغاربة حصة الجزائيين البنادق

أهم عملياته العسكرية ونتائجها
وبعد مرحلة التنسيق والتداريب والاعداد التي امتدت لأزيد من ثلاث سنوات، وخلال النصف الثاني من سنة 1955 ستبدأ تحركات قادة جيش التحرير بينما كانت فرنسا منهمكة في المفاوضات لمنع انتقال فتيل الثورة من الجزائر (نوفمبر 1954) إلى المغرب. إلا أن خريف 1955 سيحمل كثيرا من المفاجآت غير السارة للفرنسيين بالمغرب.

في البداية، ومنذ نفي محمد الخامس في 20 غشت 1953، حاول بعض القادة الأشاوس الحصول على بعض المسدسات والأسلحة الخفيفة سرا سواء عن طريق تهريبها من الجزائر أو اقتنائها من السوق السوداء بمليلية. في هذا الصدد، يقول عبد العزيز اقضاض الدوائري "انطلقنا على قدم وساق في مرحلة البحث الحثيث عن عدة الثورة بع توفر رجالها ، وحصلت لدي ثلاث مسدسات بذخيرتها اشتريتها بمالي الخاص....، هذا قبل وصول شحنة باخرة دينا إلى تراب اجزناية عبر دفعات لمختلف المناطق قبيل اندلاع الثورة.

وتجدر الإشارة إلى أن المبادرة نفسها قام بها مقاومون آخرون نذكر منهم السادة احمد اسبع ، عبد القادر اقضاض، اشعيب بن محمد الغازي، اقضاض موح، عبد السلام بن حدو، الهادي بن امعضشو، مسعود بن الصديق وغيرهم. 

غير أنه سرعان ما تبين أن فكرة القيام بعمليات فردية لن تجدي نفعا كثيرا، خاصة وان عدد المتطوعين من المجاهدين تكاثر وصاروا في حاجة إلى أسلحة حديثة وبعدد كاف، وذلك لاتساع رقعة الهجومات وتعدد نقط المواجهة العسكرية للقوات الاستعمارية بالمنطقة ، حتى التقارير الفرنسية نعتتها ب " مثلث الموت".

 وفيما يلي جدول بأبرز مؤسسي الثورة بقبيلة اجزناية 
منطقة اكنول
-مسعود اقجوج
-مسعود بوقلة

منطقة بورد واجدير سابقا الذي كان يسمى تيزي نتغزا
-الحسن الزكريتي
-على اقضاض
-عبد العزيز الدوائري
-عبد القادر الدوائري
-احمد اسبع
عبد الله نباهوه
-محند علال ابقري
-عمر اشطاطو
-عبد القادر اشطاطو

منطقة تيزي وسلي
-عمر الريفي
-عبد السلام حدو
-شعيب الغمارتي
عبد السلام الحمداوي
-مولود عدوي

وهكذا ومع اقتراب موعد اندلاع الشرارة الأولى للثورة وانطلاق عمليات جيش التحرير، تكثفت التداريب الميدانية على استعمال السلاح والاتفاق على التكتيك وتلقين أساليب حرب العصابات للمجاهدين المتطوعين من مختلف المناطق بجزناية، لا سيما من بورد واجدير وتيزي وسلي واكنول، وذلك ابتداء من صيف 1955.

وانطلاقا من شهر يوليوز من نفس السنة، سيلتحق المناضل عباس المسعيدي بالناظور ثم بمركز "الهرهار" ليحمل للمجاهدي الجزنائيين بشرى وجود السلاح، حيث وفر لهم في البداية مجموعة من البنادق لاستعمالها في التداريب بمداشر "ابرارت" و"اياروحدود" و"ابقريين" و "ازكريتن"ثم "ايار امجلا" قرب بني توزين بعيدا عن أنظار الفرنسيين ووشاتهم وعملائهم بالمنطقة ...

وبفضل التحاق بعض عناصر العسكر بالخلايا والذين اشتغلوا في صفوف الجيش الفرنسي، أمثال لاجودان محمد الغابوشي ومحمد عمر اختو والسرجان اوحود وإدريس والعوش والسرجان عبد السلام الذهبي، وكان لهؤلاء الجنود المتمرسين دورمفصلي وحاسم في تكوين وتنظيم صفوف المجاهدين.وحسب شهادة المقاوم عبد الله الزكريتي ، فان جيش التحرير عرف " تنظيما محكما، وذلك بفضل العناصر المؤسسة لهذا الجيش، فأغلبيتهم شاركوا في حروب سابقة ، كالحرب العالمية الثانية والحرب الهند-الصينية، والبعض منهم كانوا ضباطا في صفوف الجيش الفرنسي...

أما بخصوص بقية السلاح، وكما سيؤكده المناضل الشهم المسعيدي للمقاوم اقضاض بقوله" إن السلاح في يد العدو وخزائنه، ومفتاح غنيمته بيد الرجال الأبطال فكونوا هم، لهذا كان لزاما على المخططين للهجوم التفكير أولا في الهجوم على الثكنات المحتضنة للأسلحة ، وهو ما تأتى لهم بالفعل في هجومهم ليلة السبت 2 أكتوبر 1955 على الثكنة العسكرية ببورد ،بقلب قبيلة اجزناية، غانمين عدة أسلحة ورصاص وقنابل.

لقد كان ثاني أكتوبر 1955 يوم انطلاق عمليات جيش التحرير التي ستبقى معلمة بارزة في تاريخ أبناء اجزناية، الأمر الذي أكده الأستاذ زكي مبارك في تقديم كتاب جيش التحرير المغربي:"إن ميلاد جيش التحرير يوم 2 أكتوبر 1955 وإعلانه عن مبادئ وأهدافه بكل وضوح، حدث تاريخي هام، يحتل مكانة مرموقة في تاريخنا المعاصر، وتاريخ كفاح شعبنا وجهاده من أجل الحرية والاستقلال".

ميدانيا، فبعد عقد اجتماعات سرية لرؤساء الفرق شمل مضمونها خطة الهجوم والتوقيت المناسب لذلك، حيث تم الاتفاق على يوم ثاني أكتوبر مع منتصف الليل للهجوم على مجموعة من الثكنات بمنطقة اجزناية. وفي الوقت المحدد سلفا التقى المجاهدون في الأمكنة المحددة سلفا في سرية تامة قبل الإقدام على قطع أسلاك الهاتف الربطة مركز بورد بباقي المناطق من طرف المجاهد محمد قلاح، ثم الزحف بحكمة وشجاعة على محيط الثكنات والمواقع العسكرية الفرنسية.

يشكل هجوم المجاهدين على ثكنة بورد النموذج الناجح للتخطيط والتنفيذ بدقة وحكمة، حيث استطاع أبناء اجزناية بفضل إيمانهم وشجاعتهم من محاصرة ثكنة بورد من جميع الجوانب ، وقتلوا حارسها وطوقوا المسؤول العسكري بالمنطقة القبطان" تادي" الذي فر و زوجته عبر نفق ارضي سري أفضى يهما إلى منطقة مرنيسة، تاركا وراءه أسلحة الثكنة وتقارير سرية ووثائق من بينها سجل عملائه بالمنطقة. كما تحقق نفس النجاح في مراكز بتيزي وسلي ومزكيتام وبركين ومرموشة واكنول ... أخرى لكن بدرجات متفاوتة.

هذا وتواصلت الهجومات خلال اليومين التاليين رغم تحليق الطائرات بأجواء اجزناية وزحف المدافع على أراضيها وتشغيل المدافع لقصف جيوب المقاومة في الجبال المجاورة والمراكز المهددة بالهجومات، كما هو الشأن في مركز بوزينب الذي كان يتلقى ضربات المدفعية المنطلقة من "كدية الشوك" ضواحي أجدير. لكن رغم ذلك، تمكن مجاهدو اجزناية من السيطرة على هذا المركز الاستراتيجي وبالتالي السيطرة على سلاحه كاملا.

لقد سادت فتنة كبيرة واتسعت دائرة المواجهة، مما اضطر معه المسؤولون إلى ترحيل النساء والأطفال وتهجير الشيوخ والمسنين إلى مناطق النفوذ الاسباني حيث تم استقبالهم من طرف أهالي المنطقة، خاصة من طرف قبيلتي "بني ورياغل" و"بني عمارة". في حين واصل المجاهدون صدهم للقوات الاستعمارية في الجبال والطرقات، مستفيدين من دعم السكان ووعورة تضاريس المنطقة، ووجود عدة مراكز أضعفت القوة الاستعمارية، نذكر منها مراكز اسويل و ازكريتن و اخوانن واهراسن وايسمار والدواير وتيزي ندرار وسيدي عيسى وبني امحمد....الخ

ومن أهم المعارك التي خاضها المجاهدون بمثلث الموت والتي وردت في الرواية الشفوية لمجموعة من المقاومين وبعض الكتابات والأبحاث، نذكر ما يلي
معركة الهحوم على بورد التي كانت بمثابة الشرارة الأولى الأكثر فعالية في الإعلان عن انطلاق الثورة ضد الجيوش الفرنسية بالمنطقة، معركة البلوطة على مشارف دوار انحناحن على الطريق المؤدية إلى بورد المركز، معركة كدية الشوك المطلة على أجدير ومركز بزينب، معركة السوق القديم باجدير حيث يلتقي المقاومين القادمين من مداشر ازكريتن واهروشن واخوانن و اهراسن ...، ثم معركة تمجونت المتاخمة للغابات. هذا علاوة على معارك تيزي وسلي، وبالضبط بالمستحم وازرو و بني امحمد و واولاد زيان وسيدي عيسى وتيزي ندرار قرب قاسيطة، وجبل الأقرع وبوعنقود وتنملال و قارون...الخ .
كما تم تسجيل معارك أخرى طاحنة قرب اكنول بمدخل ب بوحدود والمرج وتيزي نتايدة وتارمست، وبالخصوص معركة بين الصفوف التي تقع خارج جغرافية مثلث الموت، قرب تايناست وشاركت فيها عناصر مختلفة حققت نجاحا باهرا على السلطات الاستعمارية المتنقلة. وهو الأمر الذي يعكسه بجلاء تصريح الجنرال "بيلوط" الذي أكد أن " الوحدات التي تمكنت من احتلال وتطويق مثلث الموت ( اكنول بورد تيزي وسلي) ،لم تجد أمامها سوى الأشباح، غير ان وحدات الوحدة المتنقلة تجد نفسها كل يوم مضطرة لإصلاح خطوط الهاتف والقناطر التي تتعرض كل ليلة للإتلاف، إننا أمام حرب المستنقعات ليس لمواجهة قوات نظامية وإنما أشباح يتبخرون في الطبيعة يعرفون مسالكها الوعرة..."، تلك كانت إحدى وجوه تكتيك حرب العصابات التي اعتمدها المجاهدون لمواجهة فرنسا.

ونظرا لأهمية هذه المعركة في يوميات جيش التحرير، سنورد هنا بعض التفاصيل بشأنها، علما أنها تستحق عرضا مطولا. وقعت هذه المعركة يوم 28 يناير 1956، قادها ثلة من رجال اجزناية، نذكر منهم كل من القبطان علال العجوري، والمقاوم مسعود بوقلة على رأس مجموعة من المجاهدين الذين تربصوا بمنطقة بين الصفوف من حيث تمر القوافل العسكرية الفرنسية لمباغتتهم في الوقت المناسب. وبالرغم استنجاد قوات العدو بالطائرات العسكرية، إلا أن خسائر في الأرواح والمعدات كانت فادحة.

لقد غنم المجاهدون عدة قطع معدات وأجهزة عسكرية من بينها" 104 قطعة من الأسلحة المختلفة، وراديو من نوع "سرجناف" وخمس راديونات لا سلكية من نوع 536..."

فهناك من قارن هذه الواقعة من الباحثين بمعركة أنوال الشهيرة من حيث التخطيط والإستراتيجية والنتائج. اذ خلفت حوالي 300 قتيل ومئات الجرحى في صفوف العدو، واستشهد فيها 13 شهيدا دفنوا بعين المكان، أي بمنطقة بين الصفوف الواقعة على الحدود بين اجزناية والبرانس .

هذا في المجمل تاريخ جيش التحرير بمنطقة مثلث الموت من التأسيس إلى الثورة. قد تتعدد الروايات حسب موقع الأشخاص وتاريخ التوثيق ومدى بعدهم أو قربهم من العمليات، لكن القاسم المشترك لأغلب المذكرات تلتقي في اغلب التفاصيل الواردة. وتبقى جوانب أخرى معتمة من تاريخ جيش التحرير لأسباب سياسية أو ثقافية، وعلى المهتمين بالشأن التاريخي لثورة أكتوبر 1955 بجزناية استقراء مزيد من الوثائق الأجنبية لاستجلاء حقائق أخرى أكثر موضوعية ، خاصة تلك الواردة في الصحافة والتقارير العسكرية الأجنبية التي أوردت تفاصيل دقيقة حول العمليات. بالرغم من كونها كتبت بأقلام استعمارية، إلا أنها تتضمن جانبا من الحقيقة الغائبة.