بضع دقائق، جرعات من الماء للمضمضة، جلسة قرفصاء و"النية" كافية لأن تجعلك تتخلص من كل القطع النقدية، القطع البلاستيكية، أجزاء صغيرة من لعب الأطفال، معجون ورق ، تسممات أو ما يسمى "بالتوكال" وكل الشوائب العالقة في معدتك منذ مدة قصيرة أو طويلة، بل وحتى الميكروبات العالقة بالعين أو بالأذن والحصي بالكلي والمرارة.
"العوادة" بكسر العين، طقس غريب للتداوي الشعبي محدود جغرافيا بمنطقة تازة فقط ومنحصر على ممارسة النساء الارامل ممن يتجاوزن الأربعين سنة غالبا. " العواديات هن نساء يعملن على تطهير الأعضاء الباطنية. بين من يعتبر أنهن يعتمدن على خفة اليد وخدعة على درجة كبيرة من الذكاء، وبين من يشهد لهن بالفعالية والنجاعة تبقى طقسا لا يمكن إثباته ولا إنكاره علميا لاختلافه عن باقي أنواع الشعوذة والسحر بإمكانية رؤية النتيجة مباشرة بالعين المجردة للزبائن. ممارسة تجمع بين الوقائعية والعجائبية ولها من الأسرار ما يجعلها مقتصرة على النساء فقط، حبيسة مدينة تازة ومباركة بالصمت والتغاضي من طرف وزارة الصحة والسلطات المحلية.
محمد في الأربعين سنة من عمره، فلاح قدم إلى سوق المسيرة الأسبوعي يوم الإثنين وتوجه إلى "العوادية رحمة" التي وضعت أعلى خيمتها لافتة مكتوب عليها اسمها، رقم هاتفها وعنوانها الشخصي على غرار باقي العواديات المجاورات لها. لا تبدأ رحمة بوجهها الأسمر الذي نالت منه تقاسيم العمر حركاتها إلا بعد أن يؤكد لها نفيا عدم تناوله لوجبة الفطور، تجلسه بجانبها وتسقيه ماء بكف يدها اليمنى، تطلب منه أن يمضمض فمه في حين تضغط بيدها اليسرى على رقبته، يقوم بالمضمضة، أقل من دقيقة كافية وبدون أي ألم يشرع في الغثيان ليخرج من فمه تسربات لزجة، وألياف رقيقة ومعجون شبيه بالورق، تريه له بسرعة قبل أن تضعه تحت ثوب تجلس عليه، يسلمها 10 دراهم ثم ينسحب شاكرا لتستقبل رحمة زبائن اخرين. " هادشي ديال الله وعندنا وراثي، ومابديت نمارسو حتى غاب وجه مي، كناخدو اللي كتب الله مكانتشرطوش، كنكون في السوق ولا في داري الي حتاجني يتاصل بيا، وملي نخرج من مدينة تازة هادشي مايسلمش لينا".
رحمة وكغيرها من العواديات اللواتي نصبن خياما لهن بالسوق لا تستطعن ممارسة هذا الطقس إلا بمدينة تازة والأسواق الأسبوعية المحيطة بها تقول زهرة العوادية وهي تبلل يدها استعدادا لتمريرها على عين المصاب" كنداوي الناس في الأسواق، اثنين وخميس المسيرة، الأربعاء ديال التسول، احد واد امليل.. وبلا سواق كيعيطولي الناس في النمرة ديالي ويجيو عندي لدار في البحيرة نهار الجمعة اللي عطلة" زهرة التي تعيش على مدخولها من "العوادة" ما إن انتهت من جملتها حتى علق بيدها حجيرات صغيرة أرتها للزبون الذي سلمها مالا في يدها وانصرف.
زبناء العواديات هم من مختلف الطبقات الاجتماعية أغنياء وفقراء، مثقفين وأميين، حسب ما صرحت به أغلب العواديات بين من تحكي الحقيقة وبين من تقزم بالإشهار والماركتينع المبالغ فيه، فمريم هي أستاذة جامعية تعترف بزيارتها للعوادية " قادمة من مكناس جئت إلى إحدى العواديات التي نصحوني بها وأحضرت ابني الذي ابتلع قطعة صغيرة من اللعب حيث لم يستطع الطبيب استخراجها من حنجرته، ودابا راه بخير نحمدوه ونشكروه".
مريم ليست الوحيدة التي قدمت من مدينة أخرى إلى تازة بل زبناء العواديات يزورنها من دول أخرى وخصوصا ليبا ودول الخليج، حيث أصبحت تازة محجا للطب الشعبي.. و"العوادية رحمة" تزيل أيضا التوكال بواسطة أعشاب يقوم الزبون بشرب كؤوس منها، وهي حالة محمد الذي يحكي قصته " سقطت في حبي فتاة وفعلت المستحيل حتى استطاعت وضع التوكال في صحن طعامي ومنذ ذلك ولمدة سنتين وأنا أعاني من ضعف الشهية ونقص وزني وقلت حركاتي، زرت عدة أطباء لكن لم ينجح أي منهم في تشخصي مرضي، زرت بعدها العوادة وبعد ثلاثة أيم فقط استرجعت صحتي وشهيتي وكأن شيئا لم يكن".
حجزت مكانها وصمدت واستمرت دون أن تستطيع موجة التحديث والعصرنة النيل من شعبيتها وقوة تأثيرها في أعراف التداوي بين الناس وعادات الطب التقليدي خاصة حين تتداخل مع عناصر أخرى دينية، سحرية، أسطورية، لكن الطبيب محمد لمزوري ممارس للمهنة بمدينة تازة يصرح قائلا "زرت العوادية بهدف الحصول على ذلك الشيء الذي تستخرجه وإجراء أبحاث طبيبة عليه لكنها ترفض أن تسلمك ذلك الشيء الذي يشبه معجون الورق. ليس لأنها لا تثق بك أو لأنها تشك في نواياك ولكن لأنها ورثت الطقس بهذه الطريقة وتعلمته بهذه الطريقة تريه بسرعة قياسية في أقل من 3 ثواني ثم تبعده وهو ما يقوي احتمال أن يكون مجرد خدعة بصرية وخفة يد بدرجة أولى لكن السؤال هو لماذا تنتشر مثل هذه الممارسات".
لمزروي يتساءل ويجيب على سؤاله مستدركا "لأننا في بلد لا يوفر أدنى مجهود للولوج إلى العلاج. لو كنا في بلد يوفر التغطية الصحية الإجبارية، والتغطية الصحية الكلية بما فيه التنقل من مدينة لمدينة من أجل الاستشفاء فلن يقبل المريض على هذه الطرق التي تبث عدم نفعيتها حيث يزورني عدد كبير ممن سبق أن زاروا العواديات لكن بدون نتيجة، أحد المرضى استخرجت له وبأجهزة طبية حديثة حصي من أذنه وأريتهم إياها قبل أن أسأله " علاش العوادية محيداتش ليك هادشي؟" وهو الشيء الذي تؤيده فاطمة القاطنة بالديار الفرنسية " زرت العوادية لإزالة بعض الألم التي كنت أحس بها في حنجرتي وارتحت بعدها قبل أن تعاودني الالام سنة بعد ذلك وفي نفس المكان وقصدت الطبيب الذي خلصني منها".
حالة فاطمة يمكن تفسيرها بالعامل النفسي الذي له دور كبير في العلاج حيث إزالة تلك الشوائب على يد العوادية يجعل المريض يحس نفسيا أنها تعافى بمجرد رؤية الدليل بعينيه لكن هذه الفرضية تتضاءل عندما لا يقتصر زبناؤها على الجنس البشري بل يتعداه إلى الحيوان، حيث جاء في إفادات الفلاحين أن العوادية عالجت البقرة والشاة والخروف بإخراج مواد ضارة من بطونها مثل المسامير والأسلاك الصدئة والزواحف القاتلة التي تتسبب في الإمساك عن الأكل وتؤدي إلى الهزال والموت. كما تقول الحكايات المتوارثة أنه وفي عهد المستعمرين، أخذ الفرنسيين الفضول لمعرفة مصداقية هذا الطّقس، فغرزوا إبراً في البطّيخ و طلبوا العوّادية، فأدهشتهم باستخراجها.
تقول الحكايات المتوارثة أنهن يحصلن على بركتهن من السادات والأولياء، فالراغبات في ممارسة العوادة يلجئن للضريح ويبتن به ليلة أو أكثر، وفي الصباح إن أصبحت يدها محناة أو أية إشارة أخرى ملموسة فإنما يدل على أنها أصبحت مأذونة للعوادة.
يقول عبد الحق عبودة أستاذ باحث في التراث الشعبي " أسرار الحرفة لا تملكها إلا الممارسات اللواتي يحرصن كل الحرص على إضفاء طابع القدسية والعجائبية على حرفتهن هذه، وأي بوح بهذه الأسرار يعني إفلاسهن وبوار تجارتهن، وفي أقصى الحالات وإرضاء لفضول السائلين، ومحاولة إقناعهم يكشفون عن أن الحرفة متوارثة عن السلف وأن قنها السري هو " بركة الله".
يقول عبد الحق عبودة أستاذ باحث في التراث الشعبي " أسرار الحرفة لا تملكها إلا الممارسات اللواتي يحرصن كل الحرص على إضفاء طابع القدسية والعجائبية على حرفتهن هذه، وأي بوح بهذه الأسرار يعني إفلاسهن وبوار تجارتهن، وفي أقصى الحالات وإرضاء لفضول السائلين، ومحاولة إقناعهم يكشفون عن أن الحرفة متوارثة عن السلف وأن قنها السري هو " بركة الله".
حين يعجز المجتمع عن إيجاد تفسير علمي وعقلي للظاهرة الطبية التقليدية يلبسها رداء "البركة" وهو ما يتجه إلية عبد الحق عبودة "باعتبار البركة تدخل في إطار الثقافة الدينية للمجتمع المغربي يصبح من الضروري أن تعمد الدولة إلى احتوائه وترويجه بالشكل الذي يخدم استقرارها وسلطتها. فشعب يؤمن بالبركة والخوارق من شأنه أن يغني الدولة عن تسطير برامج اقتصادية واجتماعية ووضع مشاريع تنموية عادلة قادرة على تحسين مستواه المعيشي. ولعل المتجول في الخارطة الاعتقادية للمجتمع المغربي سيكتشف أن التوجه السياسي للمغرب يبارك الإيمان بالبركة والكرامات، مما ينتج عنه مجتمع متواكل آلته تفكيره معطلة، وبالتالي تصبح الدولة في مأمن من أسئلته المقلقة".
وهو الشيء الذي يؤكده محمد لمزوري " الظاهرة هي رد طبيعي لعدم توفير الدولة للحق في العلاج، وتضمن ابتعاد المواطنين من ضمان حقوقه الأساسية في تطبيب متساوي للجميع، وتغطية صحية في مستوى المغاربة ونصوص قانونية صارمة ردعية وزجرية لأي ممارس للتطبيب خارج المهنة مما يشكل أضرار صحية كمادة الدبغ التي تستعملها العواديات والتي تبث أضرارها الجسيمة على البيئة فما بالك بالمواطن" ويضيف المزوري قائلا " الدولة تستفيد، والمنتخبين يستفيدون كحال بويا عمر وقصة مكي الصخيرات والطقوس البدائية والشعبية في أي منطقة حيث تساعد على الرواج السياحي والاقتصادي لها مما يؤدي إلى صمت السلطات المحلية".
الصور: