يقول عبد الغني اعبابو في حوار خاص: كنت الابن الوحيد الذي كتب له أن يرى والده قبل هجومه على القصر الملكي بالصخيرات في يوليوز ، كان أبي مصرا على أن أعود إلى قرية بورد لزيارة جدي، وكنت آنذاك أبلغ من العمر السابعة عشرة.
أنا من مواليد 27 مارس 1954 بقرية بورد كنت الابن الأكبر في عائلتي، تزوج أبي وهو لم يتجاوز 19 سنة كان يدرس في الأكاديمية العسكرية بمكناس وتزوج بوالدتي وعمرها 14 سنة.
أما منطقة بورد التي ولدت فيها، فتقع في شمال غرب كزنايا، وهي محاذية لمنطقة بني عمارت التابعة لقبيلة بني ورياغل، وهي منطقة جبلية فيها أشجار، ويعيش فلاحوها على الفلاحة المعيشية، ويعتمد سكانها على رعي الماعز والبقر في إطار للكفاف الذاتي. وبعد مجيء الاستعمار قام الفرنسيون بغرس الزيتون والعنب في ما بعد بالهضاب.
وكشاب كنت أرغب في قضاء العطلة الصيفية في القنيطرة، لكن أبي ألح علي بضرورة العودة إلى القرية الموجودة بنواحي تازة، وكانت تلك آخر رؤيتي له بعد حديث مطول تطرق فيه إلى الظروف السياسية والاقتصادية التي كانت تعرفها البلاد وعن تهريب أموال البنك الدولي إلى الخارج من طرف الوزراء ومسؤولين كبار في الجيش خربوا ونهبوا واستهزأوا بالشعب المغربي. لذا فما قام به أبي كان ردة فعل غاضبة ضد غطرسة الطغمة الحاكمة التي نهبت خيرات البلاد وعطلت المشاريع التنموية والمجتمعية، وليس انقلابا عسكريا.
لم أسمع أي شيء، ولم يتحدث والدنا عن الهجوم، وقد تعرفت عائلتي على ما جرى مثل كل العائلات المغربية عن طريق الراديو بعد إذاعة البيان وإعلان الجمهورية في المغرب.
ساعات بعد العملية، استفسرت أحد أفراد عائلتنا عن التطورات التي تعرفها الرباط، وسألته كذلك عن أخبار والدي وعمي (الكولونيل امحمد عبابو)، إلا أن هذا الشخص لم يتفوه ولو بكلمة، وكان القلق والخوف باديين على وجهه، متنكرا للرابطة العائلية.
وبعد إعلان فشل التمرد العسكري بإعلان الملك في خطاب له أن منفذي الانقلاب لقوا حتفهم، سمعت الخبر لأول مرة في حضور جدتي وأختي وزوجة عمي عبد العزيز عن طريق الراديو. وما زلت أتذكر البيان المقروء بكل لغات المغرب إلى اليوم: «اليوم قد أطيح بالنظام الملكي وأعلنت قيام الجمهورية ونطلب الهدوء»». ««راهم هجمو على الملك»»، هكذا صاحت عمتي بأعلى صوتها ««الجيش هو اللي دارها».. بدأت الأسئلة تلاحقني مسترجعا انتقاد أبي للوضعية السياسية في البلد وشدة غضبه من نهب ممتلكات الشعب وإصراره على ضرورة عودتي إلى بورد، فأدركت آنذاك أن آخر لقاء جمعني بأبي كان بمثابة وداع، وفي الوقت نفسه بداية المعاناة مع المخزن الذي أساء إلينا كثيرا ولسنوات عدة.
كان الوضع قاتما ولم تكن تصلنا أية معلومات. ودعني أكون صريحا معكّ ««راه حتى واحد مكان يقدر يهضر على اللي طرا، كيفاش بغيتهوم يتكلموا لينا على الوالد ولا يوصلو لينا خبارو؟»».
وبعد إعلان فشل التمرد العسكري بإعلان الملك في خطاب له أن منفذي الانقلاب لقوا حتفهم، سمعت الخبر لأول مرة في حضور جدتي وأختي وزوجة عمي عبد العزيز عن طريق الراديو. وما زلت أتذكر البيان المقروء بكل لغات المغرب إلى اليوم: «اليوم قد أطيح بالنظام الملكي وأعلنت قيام الجمهورية ونطلب الهدوء»». ««راهم هجمو على الملك»»، هكذا صاحت عمتي بأعلى صوتها ««الجيش هو اللي دارها».. بدأت الأسئلة تلاحقني مسترجعا انتقاد أبي للوضعية السياسية في البلد وشدة غضبه من نهب ممتلكات الشعب وإصراره على ضرورة عودتي إلى بورد، فأدركت آنذاك أن آخر لقاء جمعني بأبي كان بمثابة وداع، وفي الوقت نفسه بداية المعاناة مع المخزن الذي أساء إلينا كثيرا ولسنوات عدة.
كان الوضع قاتما ولم تكن تصلنا أية معلومات. ودعني أكون صريحا معكّ ««راه حتى واحد مكان يقدر يهضر على اللي طرا، كيفاش بغيتهوم يتكلموا لينا على الوالد ولا يوصلو لينا خبارو؟»».
في أحد الليالي طلب منا ابن عمي مغادرة المنزل، لأننا سنخلق له المتاعب. اضطررنا لمغادرة المسكن، فاحتضنتنا أسرة لمدة ثلاثة أسابيع على سبيل التضامن رغم أنها لا تربطها بنا أية قرابة عائلية. أما ذاك الشخص الذي تحدثت عنه سابقا، فقد شارك في التمرد، وفر من الرباط محاولا تبرئة نفسه من خلال التنكر للدم، إنها المأساة بعينها!
بعد 1956، تخرج والدي محمد اعبابو من المدرسة العسكرية بمكناس برتبة ملازم أول، وهو مازال شابا في مقتبل العمر. وتصادف التحاقي بأول مدرسة بهرمومو بانتقالنا إلى مدينة افضالة (أي مدينة المحمدية). وكان قد سبق لوالدي أن انتقل إلى تطوان في فترة الحماية. كما صادف ذلك عودة الجنود المغاربة من إسبانيا وإعادة هيكلة الجيش المغربي بعد أن التحق به جيش التحرير، وأيضا انتفاضة الريف في 1958.
في 14 يوليوز، سمعنا في الإذاعة والتلفزة أنه تم إلقاء القبض على والدي محمد اعبابو قرب الشاون، وكان رجلا قويا ومعنوياته عالية. زرته مرة مع جدي الذي لامه قائلا ««واش تيقو في اغاربيين؟ كان عليكم تستاشرو نتوما مازال شباب..»».
التزم أبي الصمت قليلا، لأنه كان يحترم جدي، ولكن رد عليه بأن «فشل العملية يعود إلى الخيانات، ومعك حق لا ثقة في اغاربيين، هؤلاء يخدمون مصالحهم.» لقد كنت أزور والدي من فبراير 1972 إلى أواخر يوليوز 1972، وكنت مواظبا عى الزيارات.
غاب الحديث عن المحكومين وغيرهم وصمتت الجرائد، وصمت الشعب، وقد تطوع محامون كثيرون ومازلت أتذكر المحامي الشخصي لوالدي الوزير الأسبق للعدل محمد بوزوبع، في آخر لقاء أخبرته بأن أبي تعرض للاختطاف من داخل السجن بعدما حاصرت قوات التدخل السريع السجن المركزي بالقنيطرة، ونقلت إليه ما قاله لي بالحرف أحد أفراد القوات المحاصرة، فرد بوزوبع قائلا: «راه الوليد ديالك داوه سير سول في الرباط هما للي عرفين فين.. هاذ الشي لي عندي ما نقول ليك.»
انا كنت أدرس، وكان جدي من أمي يمد لنا يد المساعدة، بالإضافة إلى تعاطف أناس لا تربطهم بنا أية قرابة عائلية وقفوا إلى جانبنا في محنتنا ولسنوات طوال. لقد كان أبي يقول لي وهو وراء القضبان ««ما خليت ليكم والو، ماتلومونيش. ولكن نتوما عارفين انا مفكرشيش لعجينة»»، قال لي أيضا: ««تهالا مزيان في الإخوان والأخوات»»
تعرضنا إلى مضايقات بالجملة وإلى مؤامرات لا يتسع المجال لذكرها. فقد ضرب الحصار على كل عائلة تحمل اسم اعبابو، خاصة في الريف، حيث تمت محاصرة مسكن جدي لسنوات طوال. نفس الضغوطات والمراقبة البوليسية تعرضت لها أسرة عمي، وتم حجز كل الوثائق والصور.
بعد مغادرتي المغرب، اتصلت بمنظمات حقوقية فرنسية وتنظيمات سياسية مغربية سرية، تحدثت وأثرت موضوع المختطفين وسجناء الرأي العام في المغرب، وقمت بتأسيس إطار جمعوي للدفاع عن حقوق الهجرة والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين المدنيين والعسكريين وعودة المنفيين والمغتربين. لم تكن هناك، آنذاك، منظمات وجمعيات حقوقية، علما أن تأسيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان جاء متأخرا. لكن التنسيق مع الضمائر الحية والشريفة في بلدنا لم ينقطع أبدا، إذ عملنا كجمعية في هولندا خاصة، وفي أوربا عامة، على تنظيم مهرجانات لتعضيد تجاربنا النضالية كمهاجرين وربطها بنضالات الشعب المغربي في الداخل، مع التركيز على مهرجانات تضامنية وأخرى تعريفية بالتجارب المضيئة في تاريخنا السياسي كتجربة عبد الكريم الخطابي وغيره.
الفيديو: