تشترك الرواية والتاريخ، علاوة على اعتمادهما السرد والوصف، في أوجه أخرى أهمها محورية التجربة الإنسانية في مختلف أبعادها ضمن أزمنة وأمكنة محددة، في حين يختلفان من حيث المصادر المعتمدة، وتقنيات الكتابة، وتمثلات الزمن، وحضور فعل التخيل.
ويأتي تناولنا لعمل روائي يحكي تاريخا آخر غير مدَون، استجابة لضرورة الانفتاح على الرواية الشفوية/المدونة، التي تعد الشاهد الوحيد في بعض الحالات، كما هو الشأن بالنسبة لرواية لحم الثور البري موضوع هذه القراءة، وكل ذلك من أجل استثمار الإشارات التاريخية ووقائع الحياة اليومية التي تحفل بها، بهدف محاولة بناء تاريخ اقتصادي وسوسيوثقافي، لمجال هامشي (قبيلة إگزناين في الريف الجنوبي) في حقبة زمنية تمتد تقريبا ما بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين.
يعتبر مؤلف هذه الرواية كارلتون ستيفنس كون من رواد الأنثروبولوجيا الطبيعية، وقد حل بالريف سنة 1926 رفقة زوجته بالتزامن مع استسلام محمد بن عبد الكريم الخطابي، وأقام بمجال إهروشن لإتمام أبحاثه الميدانية حتى سنة 1928، والتي أهلته للحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد في نفس السنة بتقديمه لأطروحته الرئيسة حول قبائل الريف1. شملت هذه الدراسة جوانب مختلفة من الحياة الريفية بما فيها الجوانب الثقافية والطقوس والمعتقدات الدينية والمؤسسات الاجتماعية. هذا وقد تكللت إقامة كارلتون ستيفنس كون في الريف بإنجاز عملين روائيين تكميليين لأطروحته؛ الأول –وهو موضوع هذه القراءة- صدر تحت عنوان “لحم الثور البري” (Flesh of the Wild Ox) سنة 1932، وترجمه عبد المجيد عزوزي إلى اللغة العربية سنة 2020، أما العمل الروائي الثاني فقد صدر سنة 1933 تحت عنوان “الريفي” (The Riffian)، وتم تعريبه من قِبل نفس المترجم سنة 2021.
يقوم كارلتون ستيفنس كون (Carleton Stevens Coon) في عمله الروائي هذا، ببناء شخصياته بتعقيداتها النفسية ومواقفها وتمثلاتها للعالم والآخر، في تداخل بين سرد موح أمزيان الراوي والشاهد، وتعليقات الكاتب، الأمر الذي يجعل عملية التأويل الثقافي للوقائع التاريخية والممارسات الاجتماعية والثقافية التي تقدمها الرواية، خاضعة لمستويين من التأويل؛ الأول يهم التأويل الذاتي للسارد، المفتقد للتدوين والمرتبط مباشرة بالموروث الشفوي والذاكرة والتجربة الخاصة، أما الثاني فهو تأويل أنثروبولوجي ثقافي يعبر عنه كارلتون كون بشكل روائي يعكس بعضا من اهتماماته الأنثروبولوجية الثقافية والطبيعية، من خلال الوصف الدقيق للمجال والبنية الفيزيولوجية لشخوص الرواية.
يُمكِّن هذا العمل الروائي الذي يحكي تاريخا من أسفل تتقاطع فيه الأحداث اليومية البسيطة مع الأحداث التاريخية الكبرى، المرتبطة جلها بحروب الثأر والمقاومة المسلحة، من العثور على إشارات من شأنها أن تساعد في فهم بعض الوقائع التاريخية الأخرى المرتبطة أساسا بالبنيات الاقتصادية والسوسيوثقافية لقبائل هامشية خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتعرف على صانعي هذه الأحداث ومواقفهم وسماتهم الثقافية، في ظل غياب مصادر تاريخية مكتوبة في هذا الجانب. غير أن عملية فهم بعض هذه الوقائع بالاعتماد على إنتاج أدبي، لا تقل صعوبة عن تأويل المصادر التاريخية ذاتها، والسبب في ذلك إشكالية تناول الأحداث بسبب تركيز الكاتب على مشاهد ثقافية بعينها بناء على كلام السارد، خصوصا تلك المتعلقة بمواضيع المقدس والحرام والنظرة للآخر. وينكب تركيزنا في هذا المحور على تكوين نظرة ميكرو-تاريخية حول مجتمع إگزناين قبل الاستعمار، انطلاقا من ثلاثة مستويات هي: الإنتاج الاقتصادي والتغذية، ثم طبيعة البنية الاجتماعية وآليات تدبير النزاعات القبلية، وأخيرا التمثلات والمواقف الثقافية عند إهروشن بما فيها أشكال التدين.
1/لإنتاج الاقتصادي والتغذية
لقد كان اختيار وادي إهروشن مُستقَرا لعبد المومن وزوجته-الهاربين من اجتياح الرعاة والعرب لأراضيهم-، يستحضر منذ أن وطأت قدماهما الأرض الجديدة، توفر الشروط الأساسية لممارسة الفلاحة، وقد تنبه عبد المومن في مسيره على ضفاف إهروشن لأول مرة، إلى الحقول المزروعة وأشجار الزيتون وسرب النحل باعتبارها مؤشرات تدل على تمحور نشاط الساكنة حول الفلاحة، وحتى قبل ذلك يؤشر جلب الزوجين للبقرة والبذور كما جاء في رواية أيت عبد المومن لرحلة جدهم التأسيسية، دليلا على ترسخ نمط إنتاج زراعي قائم على الاستقرار في عموم الريف قبل الاستعمار.
ويتضح قِدم النشاط الفلاحي عند مجموع إهروشن على العديد من المشاهد أخرى يصفها كون انطلاقا من معاينته المباشرة بحكم أنه عاش لسنوات داخل هذا المجال، وتأسيسا على شهادة موح أمزيان، مثل وصفه لتطويع عبد المومن للأرض ونقل التربة الخصبة من ضفاف المجرى المائي وشق قنوات الري، أو عبر استثمار ذاكرة المبعدين إلى الحاجب، الذين كان يمثل لهم وادي إهروشن جنة على الأرض، حيث دوالي العنب والمجاري المائية وحقول الذرة، التي افتقدتها المنبسطات الفاصلة بين فاس والحاجب رغم خصوبة تربتها، بسبب عدم اعتناء العرب بالأغراس والبساتين مقارنة باهتمامهم الكبير بزراعة القمح.
تعكس هذه التوصيفات مواقف فلاحين حقيقيين تمرسوا على تهيئة ضفاف وادي إهروشن وفلحها، سيرا على نهج جدهم عبد المومن، ومن الأنشطة الفلاحية التي مارسها السكان، احتلت الغراسة والزراعة مكانة متميزة، إلى جانب تربية المواشي. فبالنسبة للغراسة اتخذت أشجار العنب واللوز والزيتون موقعا اعتباريا عند سكان إهروشن، أما الزراعة فقد ارتبطت بإنتاج الذرة والشعير والقطاني وبعض الخضراوات، في حين اتسمت تربية المواشي بالاعتماد على رعي قطعان الماعز وتربية البقر. وتتضح طبيعة هذا النمط القائم على الزراعة والاستقرار، من خلال النمو العمري لأطفال إهروشن وتقسيم العمل، بحيث يتم إدماج الأطفال في أعمال الفلاحة، بشكل متدرج حسب السن، ففي البداية يرعى الطفل الصغير قطيع الماعز في السفوح القريبة ويساعد في جني العنب وجمع المحاصيل، أما بعد البلوغ فيتم الاشتغال بأعمال الحرث والحصاد، التي تكون من مهام الرجال.
تنعكس سمات نمط الإنتاج الزراعي السائد عند إهروشن قبل الاستعمار، بشكل واضح في نظامهم الغذائي، الذي نستشفه من الوجبات المقدمة خلال اليوم المعتاد والأطباق التي تطبع الأيام الاحتفالية والمناسبات الخاصة، كما أن نمط التغذية الذي فرضه المناخ ونوعية المواد المتاحة بالمنطقة، بإمكانه إعطاء صورة أوضح عن غنى المجال وفقره، بحيث كان السكان يستهلكون الفواكه المجففة (الزبيب واللوز والمشمش) بشكل كبير، وهذا دليل على اهتمام إهروشن بغراسة الأشجار، في حين استحوذت الحبوب والقطاني هي الأخرى على القسط الأوفر من مائدتهم، عاكسة بذلك تخصيص النسبة الكبيرة من المساحات المزروعة لحقول الذرة والشعير والقمح والقطاني، نظرا لما توفره هذه المنتجات من خبز وعصائد وفطائر وكسكس وبصارة جريش البازلاء، كما تواجدت إلى جانب ذلك مواد غذائية تكميلية ارتبطت هي الأخرى بالفلاحة، ووفرها الاهتمام بتربية المواشي والدجاج والنحل، مثل الزبدة والألبان واللحوم الطازجة والمقددة والبيض والعسل.
إذا كانت المأكولات تبرز نمط الإنتاج الاقتصادي الطاغي في وادي إهروشن، فإن استهلاك المشروبات يؤشر إلى جانب قيمتها الغذائية، عن أبعاد اجتماعية وثقافية، ومنها استهلاك الشاي، الذي اعتبر دليلا على ترف العائلات وتوسع ممتلكاتها. في حين مثل شرب النبيذ المحلى بالعسل، عند أيث عبد المومن فعلا مشينا ودليلا على الوثنية والبعد عن الدين شأنه في ذلك شأن لحم الخنزير البري الذي كان يقدم ضمن الأطباق الأساسية في اتحادية قبائل صنهاجة سراير بشكل عادي. ويتضح من خلال متن الرواية أن لحم الخنزير البري كان من الموضوعات التي ركز عليها كون، نظرا لما طرحته من اتهامات سكان إهروشن لجيرانهم جبالة، مقابل السكوت عن مناقشته عندما يرتبط الأمر ببعض الأفراد المنتمين إليهم أو لقسمتهم القبلية.
تحفز المعلومات المرتبطة بالاقتصاد التحتي بمجال إهروشن، على خوض مغامرات أخرى مثل تقييم نظرية اقتصاد الكفاف أو اقتصاد القلة في حالة هذه المداشر الهامشية، والملاحظ أن هذا الاقتصاد لم يكن تحت وقع تراكم الأزمة بنفس الحدة التي عرفتها مجالات أخرى، بحيث تميز وادي إهروشن بالندرة والوفرة معا، مع اهتمام السكان بتجفيف بعض المنتوجات والعمل على تخزينها في سلال ومطامير لفترات الندرة. ويمكن القول بأن العامل الذي كان يعيق هذا الاقتصاد، تمثل بالأساس في النزاعات القبلية التي غذتها حروب الثأر، إلى جانب الضغط الديمغرافي على الوادي. وغالبا ما قام إهروشن في حالات الندرة ونفاذ المطامير والسلال، بالإقبال على بدائل غذائية أخرى من بينها لحم الخنزير. وبالمقابل نستشف من تسويق ساكنة وادي إهروشن لجزء من المحصول الفلاحي والمنتوجات الصناعية عبر أسواق محلية أو في عاصمة المخزن بفاس، وجود فائض للإنتاج يتم تبادله بمنتوجات لا يوفرها مجال إهروشن.
إلى جانب الفلاحة، مارس السكان أنشطة اقتصادية أخرى، لكنها بقيت هامشية، وتأتي على رأسها بعض الحرف اليدوية والأعمال التجارية التبادلية بالأساس، ومن أهم هذه الحرف تأتي صناعة المطاحن المائية، وصناعة البنادق الدخيلة على وادي إهروشن، والتي تعلمها المعلم احميدو بصنهاجة السراير. أما النجارة فتُستحضر في الرواية مع موح أب المعلم حميدو والمنزل الخشبي الذي أقامه، ومع السارد موح أمزيان الذي ركن إليها بعد نهايته كمحارب شرس عايش وخاض العديد من الحروب الدموية. نعثر في ثنايا هذا السرد الروائي، على انتشار حرف أخرى مثل العطارة والحدادة، إلا أن الفئات الممارسة لهذه الأنشطة غالبا ما كانت تصنف عند إهروشن في أسفل الهرم الاجتماعي، وعادة ما يتم رمي نساء ممارسي هذه الحرف بالخيانة الزوجية. ومن جانب آخر قامت نساء إهروشن بممارسة صناعات يدوية بهدف إنتاج أدوات للاستعمال المنزلي، مثل الأطباق المصنوعة من الدوم، والسلال المعدة لتخزين الزبيب، والأواني الفخارية المعدة للطبخ والأكل، وغالبا ما كان يتم تسويق هذه المنتوجات من طرف النساء أنفسهن عبر أسواق نسائية كانت منتشرة عند قبائل الريف.
2/ مجتمع وادي إهروشن: الثأر من خلال سوسيولوجيا دموية:
تعتبر منطقة إهروشن ضمن قسمة أشث عرو عيسى في مجال إگزناين، مثالا على طبيعة بعض البنيات الاجتماعية قبل الاستعمار، وعلى الرغم من تقديم دافيد هارت (David Hart) لنموذج “انقسامي” محاذي لوادي إهروشن، في دراسته حول أيث ورياغر2، إلا أن رواية لحم الثور البري تطالعنا بإشارات توحي بوجود تراتبية اجتماعية، إلى جانب السمات المميزة للمجتمعات الانقسامية، وتتضح هذه المفارقة في علاقة الثروة بالمكانة الاجتماعية والسياسية داخل النسق القبلي، كما توضح حياة المعلم احميدو والحاج بقيش، على الرغم من خطر قرارات المجلس القبلي على احتكار الثروة وتركزها بمجال الريف عموما، إذا ما قورنت بالضرائب التي فرضها المخزن على المناطق الخاضعة له، كما توضح شهادات أيث عبد المومن ممن استقروا بالحاجب، حيث تسهل مراكمة الثروة بسبب غياب المجلس القبلي.
style="font-size: large;">
ويتكون المجلس القبلي المعني بتدبير الشؤون القبلية وحل النزاعات وسن القوانين العرفية وتنفيذها، من “إمغارن” كمتحدثين رسميين كل باسم مجموعته القبلية، كما أن لهم نفوذهم وتأثيرهم أثناء اتخاذ القرارات الحاسمة. ويتخذ هذا المجلس مكانة محورية في تدبير شؤون القسمة القبلية التي تنتمي لها منطقة وادي إهروشن، ويخضع الحصول على التمثيلية في هذا المجلس إلى معايير مادية كالأرض والثروة، إلا أنها تبقى عادية إذا ما قورنت بمعايير رمزية وروحية، حيث يحتل الفقيه والشريف والحاج والمجذوب مكانة كبيرة في مجموع الريف كما تطالعنا أحداث الرواية. يمكن كذلك معيار الشجاعة في بعض الأحيان من تمثيل المجموعة في هذا المجلس، كما يوضح نموذج عياد الأسود المنتمي إلى عائلة من الحدادين، والممثل لإحدى قسمات أيث عمارت (ص. 86).
لا نعثر في ثنايا الرواية عن تعايش إهروشن مع فئات اجتماعية عرفتها مجالات أخرى من مغرب ما قبل الاستعمار، من قبيل اليهود والعبيد، مع الإشارة إلى وجود فئات اجتماعية أخرى مهمشة مثل الحدادين والعطارين، وأخرى ارتبطت بالنشاط الفلاحي في مغرب ما قبل الاستعمار مثل فئة الخماسة، بحيث تشير الرواية إلى الاعتماد عليهم من طرف المعلم احميدو وبعض الوجهاء، في فلاحة الأرض مقابل حصولهم على خمس المنتوج.
توضح المكانة الاجتماعية للفقهاء و”رمقودام” (المقدمون)، قيام التراتبية الاجتماعية كذلك على أساس الوظائف الدينية والروحية الممارسة بمجال إهروشن، بحيث يكون فقيه المسجد بمثابة ناطق باسم المدشر ومعالج ومشرف في الوقت نفسه على تعليم القرآن للطلبة الصغار. في حين يشرف “رمقودام” على زاوية سيدي مسعود ولا يخوضون حروب الثأر، كما أنهم غير معرضين للهجومات القبلية بحكم انتمائهم للنسب الشريف (ص. 88). وعلى العكس من ذلك لا تحظى بعض الطرق الصوفية مثل هداوة بنفس الاحترام الذي يعامل به الشرفاء نظرا لمظهرهم وطريقتهم في الكلام، بحيث لم يحظ الهداوي الوافد على الدوار باحترام ساكنة إهروشن، على الرغم من استحضار الرواية لدور عبد الرحمان المجذوب، كأحد المصلحين بين مدشر أيث عبد المومن ومدشر أيث ثاثنوت، موظفا في ذلك علمه الأخضر كدلالة على حجه لبيت الله، وجنونه الصوفي الذي تفصح عنه سخريته وطريقة كلامه (ص. 89).
تبرز الصراعات الدموية التي عرفها وادي إهروشن قبل الاستعمار، الطابع الانقسامي داخل القسمة نفسها، وفي صراعها مع باقي القسمات الأخرى المستوطنة لمجال إگزناين، على الرغم من وجود تراتبية اجتماعية واضحة في وادي إهروشن، وتنجلي سمات الطابع الانقسامي من خلال مستويات الانشطار أو الانصهار داخل هذا المجال القبلي، وما يؤيد هذه الملاحظة هو استثمار النسب المشترك والروابط الدموية في حروب الثأر، التي تتوقف بمجرد اقتراب الخطر الخارجي من مجالهم القبلي، وعقد تحالفات قبلية ممتدة حتى مع قبائل جبالة، وتحديدا تحت قيادة الفقيه محمد بن عبد الكريم، قبل أن يتحول لقبه للأمير (ص. 270).
لقد اتخذت أحداث الثأر بُعداً دراماتيكيا في رواية كارلتون كون، باعتبارها الحدث الأهم في المجموعة القبلية، ويعتبر الثأر في الريف دليلا على غياب سلطة ممركزة للضبط والمعاقبة، بسبب هامشية وادي إهروشن بالنسبة للمخزن والأحكام الفقهية. وغالبا ما ارتبطت أعمال الثأر بجرائم القتل أو حالات الزنى، أو عدم وصول المجلس القبلي لحلول مقبولة من كل الأطراف، كما حدث في صراع أيث عبد المومن مع أيث ثاثنوت، وتجدر الإشارة إلى أن أعمال الثأر كانت محرمة في السوق وأيام التسوق وخلال الأعياد الدينية، لذا نفهم فداحة تصرف ميمون الذي انتقم لوالده وشقيقه يوم عيد الأضحى، وكان مصير عائلته النفي إلى منطقة بالقرب من الحاجب.
اعتمدت قرارات المجلس القبلي بوادي اهروشن -ذات الطابع العرفي غير المدون-، اقتراح حلول لإيقاف عمليات القتل مثل المصاهرة بين المجموعتين المتنازعتين، بحيث تعمد السلالات الضعيفة إلى تقديم زوجات لسلالات نافذة حتى دون مهر للاستفادة من دعم الأصهار والاستقواء على أعدائها، وتكون مثل هذه الحالات سببا في اندلاع النزاعات داخل القبيلة ذاتها وحتى بين القبائل، كما يوضح المؤلف من خلال انخراط أيث عبد المومن وحلفائهم أيث ثاثنوت في نزاع بين أيث حدو ن محند الورياغليين وجيرانهم في ثمارزگا. أما في حالة فشل هذه القرارات فكان يتم فرض عقوبات تنوعت بين فرض غرامة الدم وغرامة الحق، أو القتل، أو الطرد كحلول أخيرة، وكل ذلك في ظل غياب مؤسسات للضبط وعقوبات ردعية مثل السجن والإعدام، التي عاينها الريفيون لأول مرة في مقر قيادة عبد الكريم الخطابي، ثم بعد إلغاء الاستعمار الفرنسي للمجالس القبلية ومنع البنادق (ص. 303). وبالمقابل شكل رمي العار نوعا من طلب الصفح عبر تقديم الذبيحة ونحرها أمام باب بيت الطرف الأقوى، كما لا نستبعد إمكانية وجود طقس الإرضاع كشكل من أشكال رمي العار، كما حدث مع موح أمزيان والمرأة المنتمية للبدو الرحل عند عودته من الجزائر (ص. 309).
3/ الثقافة بوادي اهروشن: تمثلات ومواقف:
يساهم رصد التمثلات والمواقف الثقافية التي طبعت الحياة اليومية بوادي إهروشن، في اغناء تصورات الباحثين في التاريخ الثقافي لحقبة ما قبل الاستعمار، وإضاءة جوانب حول طبيعة الثقافة السائدة في مجال تميز بنمط اقتصادي قائم على الزراعة والاستقرار، ومجتمع قَبَلي سريع الانفعال والميل إلى القتال. ومن الموضوعات التي تسعفنا في لملمة بعض الشذرات حول الإنسان المستقر بقبيلة كزناية قبل الاستعمار، نهتم بتمثلاته للعالم والمخلوقات والآخر، ثم مدى حضور الدين والتصوف ضمن نسقه الاعتقادي، وأخيرا طبيعة التمثلات السحرية والطقوس المرافقة لها.
قامت تمثلات ومواقف إهروشن حول الآخر وفيما بين مختلف المداشر المكونة لمجالهم، على أساس تصنيف ديني وأخلاقي، بحيث تم استحضار الحرام وانتهاك المقدس، إلى جانب الأحكام الأخلاقية مثل “العار، الوعد، القسم، الحق…”. ونعثر على تمثلات إهروشن ومواقفهم من الآخر، بدءا بعلاقتهم بجيرانهم من أيث ثارمست وأيث ثيداس وأيث عمارث وجبالة، فقد تمثل أيث عبد المومن التي ينتمي لها موح أمزيان، أيث ثارمسث على أنهم ذوو أصول مسيحية، وأيث ثيداس ذوو أصول وثنية، أما جبالة فهم من آكلي لحم الخنزير ومدخني الحشيش والمستهلكين لشراب العنب المسكر، والذين يسمحون بإقامة علاقة جنسية مع نسائهم. ولقد انطبق هذا التصنيف حتى على المجموعات الثقافية البعيدة عن مجالهم، بحيث يعتبر العرب المستقرون في منظور الريفي صيدا سهلا ومشروعا، فهم مخادعون ومبالغون في التباهي ومن السهل ترهيبهم، عكس العرب الرحل الذين جمعتهم بأيث عبد المومن عند استقرارهم بالحاجب علاقة الاحترام المتبادل. أما السوسيون فهم إما تجار أغنياء دهاة وماكرون، أو من الممارسين لأعمال السحر خصوصا فك طلاسم الكنوز (ص. 164). وتقدم الرواية كذلك بعض المواقف من الأجانب، فالإسبان مجرد آكلي ضفادع من غير المختونين والأنجاس والعمال البسطاء، أما الفرنسيون فهم طوال القامة وصارمون وأذكياء، في حين تم النظر إلى الأمريكيين على أنهم طيبون ولا مشاكل لهم مع الريف، وإلى الإنجليز على أنهم هادئون ومحافظون (ص. 231).
أدت بعض المواقف الاجتماعية -التي تنقلها الرواية- إلى نسج علاقات متينة مع الآخر، مبنية على قيم التضحية والشجاعة والوفاء للقسم، في حين طغى الاحساس بالغضب والكراهية في مختلف مداشر إهروشن، ومنه تغذت حروب الثأر والنزاعات القبلية، التي خلفت هي الأخرى مشاعر مختلطة ما بين الاحساس بالحزن والفراق أو الانتشاء بالنصر وإذلال الآخر، ومن الملاحظ أن الساكنة قد تعايشت مع الخوف من الموت، ويلاحظ ذلك من خلال الطقوس المرتبطة بالدفن، إلى جانب الميل إلى الاقتتال لأتفه الأسباب. وفي علاقة مع الموقف من الموت، تحولت حروب الثأر التي غذت هذا الموقف وجعلت الريفيين يتعايشون معه، إلى حرب مقدسة ضد المحتل الإسباني تحت قيادة محمد بن عبد الكريم، كما تبين مشاهد القتل في القسم الثاني من الرواية.
تطالعنا رواية لحم الثور البري ببعض المواقف الثقافية حول الجنس والنوع، وتتضح من خلال تركيز الراوي على انتشار حالات الخيانة الزوجية عند أيث ثاثنوت -وهو سرد على لسان من يعتبر عدوا لهذه السلالة- بوادي إهروشن، كما جاء في التمثيلية التي قام بها أبناء عبد المومن في اليوم الذي قدم فيه الطلبة الجبليون إلى مسجد المدشر (ص. 50). ونعثر على إشارات أخرى لحالات الخيانة كما حدث مع محند بولبرص وعلاقته الجنسية بزوجة العطار، والتي انتهت بقتل العشيق والتمثيل بجثته من خلال قطع عضوه الذكري ووضعه في فمه كما جرت العادة في التعامل مع هذا النوع من الجرائم في الريف (ص. 151). تحضر كذلك بعض المواقف الأخرى التي تبرز انتشار العلاقات الجنسية غير الشرعية، ومنها قتل أبناء المعلم احميدو أختهم منى بسبب حملها دون زواج، تفاديا للعار الذي يمكن أن يلحق العائلة (ص. 70)، وهو ما يؤشر على انتشار قتل الفتيات الحوامل بشكل غير شرعي خارج إطار الزواج. ونعثر كذلك في ثنايا هذا العمل الروائي، على نوع آخر من الممارسات الجنسية كتلك التي كان يمارسها “رمقدم” أحداد في ضريح سيدي مسعود، بحيث كانت النساء الراغبات في الانجاب، يزرن الضريح بغية الحصول على بركة الولي، ويتم استدراجهن من طرف هذا المقدم لممارسة الجنس معه، خصوصا منهن البعيدات المضطرات للمبيت بالضريح (ص. 152).
توضح خريطة المقدس بوادي إهروشن وطبيعة أفضيته المقدسة، تنوعا واضحا من حيث أصول المعتقدات والطقوس التي يؤمن بها أفراد القبيلة (المسجد، ضريح سيدي مسعود، صخرة الغولة). وتحضر هذه المعتقدات والطقوس في الحياة القبلية لساكنة إهروشن وفي علاقتها بالجسد والمرض والموت، وتجدر الإشارة إلى أن كارلتون ستيفنس كون لا يكتفي بإثارة هذه التمثلات والمواقف بل يتعدى ذلك، بالتعليق عليها وإطلاق أحكام شبيهة بما تناولته الدراسات الكولونيالية والاستشراقية حول الإسلام والقبيلة والتصوف والسحر. ومن وظائف الطقوس والتحضيرات السحرية الأخرى السائدة عند الساكنة، الرغبة في تحقيق الانجاب بالنسبة للنساء العقيمات، أو لإجهاض حمل غير شرعي باستعمال وصفات مكونة من الأعشاب، في حين تحضر احتياجات الرجال للممارسات السحرية في إعداد وصفات سامة بهدف الثأر، أو تعليق التمائم المضادة للرصاص (ص. 194)، هذا وقد كانت إعداد التمائم وقفا على الفقهاء والطلبة، الذين يعدونها للرجال والنساء على حد سواء.
استحضر سكان الريف الفاعلية السحرية لبعض القوى الغيبية والأشياء، في مناسباتهم الاجتماعية (الحروب، الأعراس، العقيقة)، ولمعالجة مشكلاتهم خصوصا المرتبطة بالأمراض المستعصية كالعقم. وتأتي على رأس هذه القوى الغيبية، الخاصية السحرية للكرامات كما حدث مع سيدي مسعود والمائدة التي تأتيه من السماء، وكذا الاعتقاد في امتلاك البركة، حيث نأخذ فكرة عن انتقال البركة من الشريف إلى شخص آخر عبر لمس شيء يخصه، كما كان الحال مع موح أمزيان الذي غنم بندقية سبق أن لمسها الشريف أخمريش، إلى جانب دور زيارة ضريح سيدي مسعود في شفاء المرضى وعلاج العقم بفضل بركة الولي. وتحضر الخاصية السحرية لبعض الأشياء والممارسات في مناسبات اجتماعية مثل الأعراس، حيث تعتبر البذور التي تنثرها العروس يوم الزفاف ذات فاعلية سحرية إذا ما أضيفت للحبوب المعدة للزراعة (ص. 278)، إلى جانب الخواص السحرية للحبل السري للجنين وحمل التمائم.
لم يشر الباحثون المغاربة في سياق حديثهم عن رواد الأنثروبولوجيا الأنجلوسكسونية بالمغرب وتوظيفهم الرواية الاثنوغرافية، إلى أعمال الباحث الأمريكي كارلتون ستيفنس كون على الرغم من أهميتها والسبق الذي حققته، باستثناء إشارة عبد الكبير الخطيبي3، التي أثار خلالها غياب اطلاع واسع على انتاجات هذا الباحث، خصوصا أطروحته حول قبائل الريف، التي ألهمت مواطنه دافيد هارت في خوض غمار البحث داخل الريف تحت غطاء المقاربة الانقسامية. ومهما يكن من غياب لكارلتون كون على الساحة الفكرية بالمغرب مقارنة بباحثين أجانب آخرين، فإن قراءة أعماله اليوم كفيلة بجعلنا نتعرف على رؤى جديدة وقراءات مغايرة لتاريخ المغرب القروي في بعده اليومي والميكروتاريخي، اعتمادا على شبكة الرموز والتمثلات وأنماط السلوك، وذلك انطلاقا من سيرة موح أمزيان موضوع هذه القراءة، وسيرة علي أوشن موضوع رواية “الريفي”4، ورؤيتهما للأحداث باعتبارهما كانا ينتميان لمجال هامشي بالنسبة للسلطة المركزية، وحتى بالنسبة للثقافة الفقهية في الحواضر.
لقد أضفت الأنثروبولوجيا المعتمدة على الرواية الاثنوغرافية طابعا خاصا على العلوم الاجتماعية وزودتها بتاريخ نابع من المجتمع، تاريخ محمل بالثقافة العابرة للأحداث الحياة اليومية والحس المشترك بما فيه المتخيل الجماعي، وخال من أي تصنع للأمجاد وسير الشخصيات “العظيمة”، لكنه تاريخ تحركه إيديولوجيات تتكامل مع الرؤية للعالم خدمة لمصالح خاصة (النسب، التراتبية، نظام القيم، الرؤية التاريخية، الآخر…). فمن خلال سرد موح أمزيان للأحداث وتأويل كارلتون كون، نلمس ما يمكن أن نسميه تفاعلا متبادلا بين تأويلات الراوي وتأويلات الكاتب، فمن يتكلم من خلال سرد موح أمزيان؟ ومن يتكلم من وراء كلام الأنثروبولوجي؟ لا شك أن موح أمزيان توجهه إيديولوجيا النسب الأبوي كما تحضر عند كافة أيث عبد المومن، في نظرتهم لجيرانهم وعند استحضارهم للرحلة التأسيسية لجدهم عبد المومن، بما تحمله رمزية البقرة والكلب وزريعة الشعير، وبما يؤشر عليه اللقاء مع الولي الصالح سيدي مسعود على قمة الجبل، قبل العثور على جنة بوادي إهروشن.
أما كارلتون كون فقد تمكن من اختراق الأسرة الريفية ونقل أحداثها اليومية ورصد بنيتها الاجتماعية، بعد أن انجذب إلى الريف واستهوته دراسة العنصر الريفي. وتتضح الايديولوجيا الموجهة لـ كارلتون ستيفنس كون من خلال تركيزه على مشاهد ثقافية يقدمها للقارئ في قالب روائي ماتع، وضمن هذه الاهتمامات تمثل الفيزيولوجيا والقتل والجنس والمقدس، المواضيع الرئيسية في الرواية سواء من خلال أعمال الثأر التي عوضها الجهاد المقدس ضد المستعمر، أو عبر مواقف الريفين من الخيانة الجنسية والشذوذ والحمل غير الشرعي، في حين استأثر الإيمان بالقوى الغيبية والخارقة قدرا كبيرا من اهتمامات الكاتب.
ختاما، لا يستقيم استثمار الرواية الإثنوغرافية في كتابة التاريخ، إلا من خلال الوعي بخصوصيات معالجة الوثيقة الأدبية، في علاقتها بالرموز والمتخيل وتقنيات الكتابة وأشكال استحضار الزمن، وباعتماد كتابة تاريخية تهتم أكثر بتاريخ التمثلات والمواقف والطقوس، وتقر ضمنيا بوجود عامل تاريخي رمزي غير خاضع للوقائع المادية أو “التحتية” فقط. وفي هذا السياق تمكن هذه الأعمال الروائية من إضاءة جوانب أغفلت من طرف الباحثين، لها القدرة على إعادة تشكيل الواقع التاريخي في مستوياته الأصلية، المرتبط بالثقافة المادية في علاقتها بالذهنيات السائدة، وقادرة أيضا على بعث أوراش جديدة مثل البحث في الايديولوجيات والقيم والحس المشترك، وكذا مد الباحثين بتقنيات سردية ورؤى جديدة للزمن منها الزمن الذاتي والزمن الرمزي والمتخيل.