الأحد، 30 أغسطس 2020

السكن القروي بمنطقة اكزناية بين الثابت والمتحول.. بقلم : مروان قجوع



بقلم : مروان قجوع

يعتبر المسكن الريفي إحدى المكونات الأساسية للمشهد الزراعي، وعليه فإن دراستنا للمسكن ستمكننا من الوقوف على حجم التحولات المورفولوجية والوظائفية لهذا العنصر الأساسي في التنظيم المجالي، كما يمكن لهذه التغيرات أن تشكل ترجمة حقيقية لعمق التحولات الإقتصادية والإجتماعية التي تطرأ على الساكنة.


يخضع توزيع السكن لمجموعة من العوامل الطبيعية والبشرية المحددة لإنتشاره، أما تصميم المنزل واختيار مواد البناء فهي تخضع حتى الآن لإرادة وإمكانيات صاحب المسكن وأفراد أسرته، وبذلك تكون وضعية المسكن انعكاس للمكانة الإجتماعية لمالكه، وككل منتوج بشري، فإن المسكن القروي بمنطقة اكزناية أكنول قد عرف سلسلة من التحولات سواء على مستوى الموضع، الوظائف والتنظيم الداخلي للمسكن، وذلك ضمن أنساق تتداخل فيها السيرورات الداخلية والمؤثرات الخارجية، جعلته يسير وفق ديناميات ذات توجهات وإيقاعات متباينة.

إذن ما هي أهم مظاهر تحول السكن القروي بمنطقة اكزناية أكنول؟ وما العوامل المفسرة لذاك التحول؟

1. تراجع السكن المشترك وبروز متزايد للسكن الفردي ي شكل تحول المسكن على مستوى طبيعة الحيازة التي أصبح يهيمن عليها السكن الفردي على حساب السكن المشترك تعبيرا عن نوع من الإستقلالية الذاتية للأسر، لقد أصبح "البناء المتزوجين عادة ما يفضلون الإستقلال عن العائلة خاصة بعد وفاة الأب وتقسيم الميراث، كما أن الزوجة / العروس ومع قدومها لمحل الزوجية، تحمل معها كل التجهيزات المنزلية التي يمكن أن تحتاجها، أي أنها تأتي بفكرة الإستقلال عن العائلة المستقبلية." كل هذا عمل على تفكك العائلة الممتدة وتراجع علاقات القرابة، حيث أصبح اجتماع الأبناء في مسكن الأب مجرد طقس يتكرر خلال الأعياد الدينية وبعض المناسبات، عدى ذلك يكتفي الأبناء بالتردد منفردين مساء كل يوم أو خلال عطلة نهاية الأسبوع على مسكن الوالدين. كما أن المنطقة تعرف انتشارا واسعا للسكن الخاص نتيجة التحولات التي عرفتها في أساسها الإقتصادي والإنفتاح على الخارج، من خلال الهجرة الدولية التي ساعدت على تحسين نمط عيش ساكنتها، مما أدى إلى انتقالها من نمط العيش الجماعي التقليدي إلى الفردانية الحديثة، على مستوى السكن المشترك الذي يعبر على استمرار البينة التقليدية التي تكرس الهيمنة الأبوية، حيث يعد فيها الأب الشخص المدبر للأسرة، وضامن استمرار تالحم بنيتها والحرص على توزيع الأدوار بين الأفراد، حل الخلافات، إضافة إلى تزويج الأبناء... هذا النمط، وإن كان لايزال يعرف حضورا مهما، فإنه يحمل في طياته تصدعا كبيرا أحدثته به "ثقافة العزيل" التي أصبح من خلالها لكل أسرة كانونها الخاص، عادة ما يتم اتخاذ هذا الإجراء تحت إصرار الزوجة رغبتا منها في حرية تدبير شؤون أسرتها الصغيرة خاصة في حالة عسر الإنسجام مع باقي أفراد العائلة أدى هذا التحول إلى خلق أسر نووية داخل العائلة الأبوية، حيث الإستمرار في اقتسام نفس المجال ألا وهو المسكن لكن مع استقلال كل أسرة في تدبير شؤونها الخاصة، الشيء الذي أحدث تصدعا ضمن الأسرة الممتدة، زد على ذلك ظروف العمل التي تحول دون قدرة الأبناء على إلحاق أسرهم بأماكن عملهم والتي عادة ما تكون بالمجالات الحضرية، ثم الإقامة غير القانونية لبعض المهاجرين بدول المهجر تحول دون التحاق أسرهم بمكان إقامتهم، كلها عوامل لعبت دورا حاسما في استمرار العائلة الأبوية المتصدعة.


2. المواضع القديمة للسكن القروي والإنتقال المجالي نحو مواقع جديدة ارتبط اختيار السكان لمواضع السكن عادة بالمواضع التي تقدم لهم خدمة معينة، فالمواضع ذات الموارد المائية لطالما شكلت عنصر جذب للسكان باعتبارها توفر مياه الشرب من جهة ومياه الري من جهة ثانية، كما نجد المواضع ذات الميزة الدفاعية التي كانت تحصن السكان من الهجمات الخارجية، إلا أن الدواوير التابعة للمنطقة ال ترتبط بوظيفة محددة بقدر ما كانت مرتبطة بوظائف مركبة ومتكاملة، فهي مرتبطة بالدرجة الأولى بأسماء المجموعات البشرية التي تستوطنها، ولهذا نجد العديد من الدواوير والفرق تحمل اسم "أولاد" أو "بني" نسبة للجد الأول لهذه المجموعات البشرية، وفي الآن نفسه نجد أنها مواضع منيعة ومحصنة طبوغرافيا تتمركز بعالية السفوح، مشمسة وغير بعيدة عن نقط الماء، زد على ذلك الأهمية الزراعية الضعيفة لهذه المواضع) سفوح شديدة اإلنحدار، تجزء التضاريس ...التي يتم اختيارها عمدا ليتمكنوا من استغال الأراضي المنبسطة المجاورة للأودية ، في إطار جماعي أوفردي تبعا للنظام العقاري السائد آنذاك.

كل هذه العناصر جعلت هذه المواضع ذات أفضلية مهمة من الناحية الفلاحية الأمنية نظرا لتراجع العو امل التي فرضت تجمع السكان ضمن هذا المواضع، و اعتبارا لتحسن مستوى عيش السكان وانفتاحها المتزايد على الحواضر من خلال الهجرة الداخلية والخارجية، بدأت المواضع القديمة للسكن تعرف انتقالا مجاليا نحو مواقع جديدة، ظهرت من نوى سكنية متجمعة جديدة خارج النواة السكنية القديمة، مواقع ارتكزت أساسا بالقرب من الطرق والمسالك الرئيسية، لتتخذ بذلك التجمعات السكنية أشكال ذات طابع خطي.

تراجع ملحوظ للمسكن التقليدي وظهور متزايد للسكن العصري رافق تغير موضع المسكن الريفي من رقعة لأخرى تحولات عديدة في مواد بنائه وهندسته المعمارية الشيء الذي جعله ينسلخ عن وظائفه التقليدية، "ويختلف مفهوم المسكن القروي عن نظيره الحضري، فإذا كان الثاني يعني المنزل الذي يأوي الأسرة فإن الأول يعني الرقعة التي يشغلها المنزل الذي يأوي الأسرة وكذا المرافق التابعة له" والمتعلقة بمزاولة نشاط اقتصادي أو حرفة معينة، أي التعدد الوظيفي الذي يمكن أن يتخذه المسكن الريفي بوجه عام، ليصبح بذلك مفهوما مركبا لواقع اجتماعي واقتصادي متعدد الأبعاد.

- المسكن الريفي التقليدي: على مستوى الوظائف فإن المسكن الريفي كان يقوم زيادة على إيواء الأسر بوظائف اقتصادية تتمثل في إيواء الماشية، حفظ المعدات الفلاحية، خزن المنتوجات الزراعية وممارسة بعض الحرف لاسيم التي لها صلة بالإنتاج الفلاحي، ومن جهة ثانية، فإن المسكن الريفي إطار مادي له صلة بمحيطه الطبيعي، لذلك عادة ما تكون المواد المعتمدة في بنائه ذات طابع محلي، ولعل هذا ما يفسر حضور بعض المساكن المبنية من الطين والتبن أو من الإسمنت والحجارة، وهو الصنف الأكثر انتشارا كسكن تقليدي، على مستوى المواد المعتمدة في بناء أسقف المساكن وأسطحها، نجد أن معظم المساكن التقليدية ذات أسقف من القصب دعامات خشبية مغطى بطبقة من الطين والجبس، أما أسطح المنازل فهي من الزنك المتموج الذي يحول دون تسرب المياه إلى البيوت كما يقدم أفضلية جمع مياه الأمطار.


على مستوى تصميم المسكن، بصفة عامة، يتم على "شكل مستطيل أو مربع تتراوح مساحته بين 90 و 200م ، بطول يتراوح بين 10 و20 مترا، وعرض بين 10 و15 مترا، وبعلو يتراوح ما بين 2,5 إلى 3 أمتار. يبقى عرض الغرف لا يتجاوز عادة 3 أمتار في حين يحدد طول الغرفة حسب الغرض المعمولة لأجله، أما نوافذ المسكن فعادة ما نجد اختلافا في أبعادها تتراوح بين 20 و60 سم في العرض وبين 40 و80 سم في الطول".

أما من حيث التنظيم الداخلي للمسكن فهو يتكون من عناصر متعددة، باب المسكن عبارة عن مدخل ينفتح على ممر يؤدي مباشرة إلى فناء المنزل، الفناء أو"المراح" يستخدم عادة من قبل النساء لمزاولة أنشطتهن المنزلية، كما يحتوي على حفرة أو"مطمورة" تستعمل لتخزين الحبوب، غرف النوم يرتبط عددها بعدد الأزواج في حالة الأسرة الممتدة، وتعطى الأسبقية في الغرف لأبناء المتزوجين وأبنائهم الصغار، في حين يتم مراعاة عامل الجنس في توزيع الغرف بين الأبناء البالغين غير المتزوجين، غرفة الضيوف تكون في العادة ذات شكل مستطيل، وبالقرب من الباب الخارجي للمسكن لتسهيل عملية دخول وخروج الضيوف، هذا حتى لاتتاح لهم فرص عبور المسكن ورؤية نساء الأسرة، لذلك عادة ما يكون قريبا حتى من دورة المياه، الحظيرة أو"الداموس" تتخذ هي الأخرى جزء من المسكن وعادة ما تكون ذات باب واسع عن باقي أبواب المسكن لتسهيل دخول وخروج الماشية، ويستعمل جزء منها كمخزن لأدوات الفلاحية، غرفة التخزين هي غرفة تستعمل لتخزين المواد الغذائية الزيت، الدقيق...عادة ما توجد على شكل علية أو "الغرفة" ذات درج وباب قصير يتم دخوله بشكل منحني.


ويسجل السكن الصلب بمنطقة اكزناية أكنول نسبة 44% بفعل ما أحدثته عائدات الهجرة الخارجية من تحولات في بنية السكن بهذا المجال، إذ أن اللجوء المكثف للمهاجرين لإستثمار في العقار والمبالغ فيه أحيانا ترتبت عنه دينامية مجالية هامة، أدت إلى خلق تحولات سكنية مثيرة، تجلت في انتقال السكن من سكن هش إلى سكن صلب، وما رافق ذلك من تغير في وظيفة المنزل القروي. 

أما على مستوى السكن المزدوج فيبقى يشغل نسب مهمة تصل إلى 16%، ويعد السكن المختلط نتيجة لتحسن الأوضاع الإقتصادية للسكان مما يدفعهم إلى بناء سكن أخر أو بعض الغرف الجديدة بجوار المسكن القديم، أما على مستوى التصميم فقد أصبح السكن يميل للسكن العمودي ذات الطابع الحضري المحض حيث أصبحت الوحدات المجالية المدروسة تعرف انتشارا ملحوظا للسكن الذي يزيد عن طابق واحد حيث نجد أن اتساع مساحة السكن وتزايد طوابقه أصبحت سمة أساسية تطبع سكن المهاجرين بالدرجة الأولى، كنوع من المنافسة وإبراز إمكانيتهم المادية، وتعبيرا عن نجاح مشروعهم الهجروي، حتى أصبح الزائر عند تجوله بالمنطقة، يلاحظ بروز هياكل عمودية منتشرة هنا وهناك تعكس صورة مزيفة عن الواقع الإقتصادي المعطوب للمنطقة.

عموما، يظهر أن السكن الريفي قد عرف مجموعة من التحولات المهمة على مستوى الرقعة المكانية وإدماجه لتقنيات ومواد جديدة، وتصاميم معمارية حديثة مستوردة من المجالات الحضرية، مما يدفعنا للتساؤل عن حجم التغيرات التي طرأت على التجهيزات والمرافق الداخلية للسكن؟

وقد تبين من خلال البحث الميداني الذي أجريناه أن تجهيز السكن يعرف حضورا متباينا حسب الوضعية المادية لأسرعلى مستوى المرافق، يظهر أن هناك تحسنا ملموسا في مجموعة من المرافق الضرورية، كدورة المياه وإن كانت لاتزال مرتبطة بالحفر الصحية في ظل غياب شبكة للصرف الصحي، أما بالنسبة للمطبخ فقد أصبح يطغى عليه الطابع الحضري بعد التراجع الذي عرفه المطبخ التقليدي ذات الموقد المتعدد الإستعمالات الطهي، التدفئة... في حين يبقى التوفر على الحمام رهينا بمدى عصرنة السكن، إذ يعد الحمام صفة تتوفر في الغالب بالسكن العمودي، زد على ذلك تفاوت إمكانية التوفر على الماء باعتبار أن هناك عدة أسر لاتتوفر على شبكات مائية ذاتية.

على مستوى التجهيزات المنزلية، يلاحظ أن نسبة كبيرة من الأسر تتوفر على التلفاز بعد الإنتشار الواسع الذي عرفته كهربة العالم القروي، أما الثلاجة فيبقى حضورها مهما وإن كان أقل حضورا من التلفاز نظرا لثمنها المرتفع، وهي آلة عوضت الأواني الفخارية التقليدية المعتمدة في تبريد الماء.

ارتبط انتشار هذه التجهيزات بشكل يتماشى مع أهمية ربط المطبخ والحمام والمرحاض بالشبكة المائية، وربط الكهرباء بالتلفاز والثلاجة والفرن...

تجهيزات مرافق اكزناية الجنوبية كلدمان بالكهرباء، فمنطقة اكزناية أكنول تعتبر كغيرها من القرى المغربية التي استفادت من برنامج كهربة العالم القروي، في حين بدأ الفرن العصري يعرف حضورا متزايدا أمام تراجع الفرن التقليدي والإنتشار الواسع لقنينات الغاز.

خلاصة:
إن السكن القروي بمطقة اكزناية قد عرف تحولات كبرى، سواء على مستوى الموضع والمورفولوجي أو الوظائف والتنظيم الداخلي للمسكن، وهي تحولات جعلته يرقى الى مستوى السكن الحضري، كما شكل منعطفا أساسيا في إعادة تشكيل تراب هذه المنطقة الجبلية.