بقلم : عبد الكريم بركة
حينما نتحدث عن الريف، تسري في ذواتنا قشعريرة غريبة ومن نوع خاص، ولا يمكن أن يحس بها سوى ريفي أو كل مَن عايش هذا الشعب عن قرب وتبنى همومه وقضاياه وتوغل في تاريخه حد التورط ببلد ووطن إسمه الريف.
لا يمكن لمن عاشر شعب الريف عن قرب إلا أن يتعاطف معه وينغمس في الدفاع عنه بكل قوة وعزم، مثلما وقع مع العديد من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيين وكذا العسكريين الذين لا ينتمون للريف من قريب أو من بعيد ومن أبرزهم “دافيد مونتغومري هارت” الأنثربولوجي الأمريكي المعروف الذي كان يقول: “أنا ريفي”.
وفي معرض حديثنا عن لماذا الريف وليس ثامزغا؟ سنبدأ الحديث أولا عن الهوية، ثم ننتقل إلى السياسة، ثم بعد ذلك إلى التاريخ.
1- الهوية:
حينما نتحدث عن الهوية فإننا نتحدث عن شيء يخصنا ويميزنا عن الآخرين، حيث يقول أمين معلوف في كتابه “الهويات القاتلة”: “هويتي هي أنني لا أشبه أحدا” (أو لا يشبهني أحد)، ربما سيجرنا الحديث هنا عن ماهية الهوية، واختصارا فالهوية هي تلك المنظومة الفكرية والثقافية التي تميزني عن الآخرين، حيث يمكننا هنا أن نتطرق إلى بيان جمهورية الريف الذي أرسله محمد عبد الكريم الخطابي كرئيس لجمهورية الريف إلى عصبة الأمم حيث يقول فيه بالحرف: “نحن الريفيون لسنا مراكشيين بالبت والمطلق، جغرافيا ننتمي إلى إفريقيا…” إلى آخر البيان، وهناك العديد من الآراء التي تخرج للضرب في هذا التحديد، محاولة لإذابة الريف في المكون المغربي سواء عن طريق المدخل الأمازيغي باعتبار الريف له هوية أمازيغة مثله مثل باقي الأمازيغ الآخرين، أو من الجانب الديني باعتباره مسلما أو من الجانب الجغرافي باعتباره ينتمي إلى ثامزغا.
إلا أن القول بكون المحدد الأول للهوية يرتبط بالأساس بالأرض (أي الجغرافيا، التراب أو أكال، شار بلغتنا الريفية)، وهذا ما ذهب إليه أستاذنا محمد بودهان في كتاباته حول الهوية خصوصا في كتابه: “الهوية الأمازيغية للمغرب”، إلا أن هذا الحديث مردود عليه علميا، فالهوية باعتبارها مفهوما مركزيا لدى الشعوب، يتعرض دائما للتطور والتحديد والتجديد، وذلك وفق ما يستجد لدى أي شعب ولدى أية جماعة، وإن كان دعاة التراب باعتباره مَن يحدد الهوية بشكل أساسي وذلك بضرب الأمثلة حول مجموعة من الرؤساء (الأفراد هنا وليس الشعوب)، من قبيل اعتبار الرئيس الأمريكي الحالي أمريكيا ولو كانت أصوله كينية، ثم مرورا بساركوزي الرئيس الفرنسي السابق إلى غيرها من الأمثلة التي يضربونها حول هوية الأفراد.
لكن إن لاحظنا جيدا فإننا سنجد أن هذه الأمثلة تشكل مغالطة كبيرة، فأوباما مثلا أضحى أمريكيا ولكن ما هي هوية الشعب الأمريكي؟ أو ما هي هوية الشعب الأسترالي، أو الشعب الكندي وهكذا…، هل نقول أن هوية الشعب الأمريكي هي هندية باعتبار أن أرض أمريكا هي أرض الهنود الحمر؟ وهل نقول نفس الشىء بالنسبة لكندا؟ وكذلك بالنسبة لأستراليا والأمثلة كثيرة في العالم.
بالنسبة لنا هنا، سنتحدث عن أمر المحدد الأساسي للهوية والتي لم يستطع أحد أن ينتزعها من الريفيين، إنها الثقافة، فالثقافة هي المحدد الأول للهوية، فكون الأمازيغ اليوم يحاولون الإجهاز على ثقافة الريفيين وتذويبهم في المغرب أو في ثامزغا فهذا طبعا يشكل تهديدا بالنسبة لنا نحن الريفيين، تهديدا على مستويين:
– الأول: على مستوى الثقافة الريفية التي أجهز عليها النظام المغربي عن طريق أجهزته الإيديولوجية، ابتداء من النظام التربوي الذي لا يعكس أبدا ثقافتنا الريفية ولا يتم تدريسها لأبنائنا، وفي هذا الصدد يقول “بيير بورديو” عالم الاجتماع الفرنسي “إن الثقافة التي تدرس في المدرسة هي ثقافة الطبقة أو الطغمة الحاكمة”.. ومرورا بالنظام الإعلامي الذي أجهز كليا عن ثقافتنا ويستهزئ بها، إضافة إلى انعدام اللغة الريفية في كل تجليات الحياة اليومية للريفيين. ويجاري أمازيغ المغرب النظام المغربي في قتل ثقافة الريفيين وإحلال مكانها ثقافة مراكشية (أو ثقافة الدقة المراكشية أو العمارية كما يحلو لنا تسميته)، أي قتل الثقافة الريفية بذريعة إحلال ثقافة أمازيغية مغربية وكأن الثقافة الريفية قاصرة عن تأطير الحياة اليومية والروحية والفكرية للريفيين.
– الثاني: على مستوى الانتماء، فالريفيون لا يحسون بالانتماء إلى المغرب لا الأمازيغي ولا العربي، بدعوى أنهم شعب متوسطي ولا يتقاسمون معه أبسط تجليات الحياة الثقافية، بل يعتبرون أنفسهم بعيدين جدا عن المغاربة، وهذا ما تكرسه الدولة المغربية في تعاملها مع الريف الذي لا يجد ملاذا سوى الجارة الإسبانية التي تعتبر أقرب إليه من المغرب ومن الأمازيغ الآخرين، خصوصا ما حدث مؤخرا بالريف من تداعيات الكوارث الطبيعية.
وينتج عن ذلك نتيجتين حاسمتين وهما:
• الأولى: إفراز قومية ريفية تاريخية بالدرجة الأولى، وهي طبعا قومية هوياتية وليست عنصرية، حيث ينفتح الريفيون على العالم ويتضامنون مع جميع المستضعفين والمضطهدين سواء على مستوى المغرب أو على مستوى ثامزغا أو على مستوى العالم بأسره، وهذه القومية الريفية متجذرة لدى الشعب الريفي منذ القدم، حيث تُعتبر هي القوة السحرية في الهوية الريفية للريفيين، كونها تكون قادرة بشكل دائم على تذويب أحجار الهويات الأخرى التي تفد إلى الريف والتي تتهاوى أمام هذه الهوية القومية للريف فقط لكونها هويات قومية مبنية على العرق أو العنصرية (ولنا عودة في مواضيع أخرى للتفصيل بين العرقية والقومية والعنصرية فهي مفاهيم مختلفة تماما)، ويمكن القول في هذا الصدد فالريف لم تتعرب من قبائله أي قبيلة عكس المناطق الأمازيغية الأخرى على مستوى المغرب.
• الثانية: إفراز عنصرية حمائية تحمي ثقافة وإنسان الريف من الآخرين، فالعنصرية كما يمكن أن نتطرق إليها في أبسط تجلياتها، هي اظطهاد جماعة (عرقية، دينية، ثقافية، أفراد…) من طرف فرد أو جماعة أخرى؛ إلا أن الشرط الذي يشترط في العنصرية هي أنها تُمارس من القوي على الضعيف، وهنا فعنصرية الريف هي عنصرية الضعيف تجاه القوي الذي يظطهده، أي أن الريفيين يمارسون عنصرية حمائية تحميهم من القوي (ذلك المغربي مهما كان: عربيا، أمازيغيا، فرنسيا…) والدليل هو توافد المغاربة على الريف وعيشهم ما يقارب 10 سنوات بالريف دون أن يتعلموا الحديث باللغة الريفية (ويطالبك بكل وقاحة أن تتحدث بالدارجة معه) فهذا من منظورنا ليس عذرا، بل عنصرية يمارسها المغاربة تجاه الريفيين، وهو عكس ما يفعله الفرد الريفي تماما حين ذهابه للمناطق الأخرى بالمغرب أو بالعالم، إيمانا منه باحترام ثقافات الآخرين.
ولنا أمثلة كثيرة على هذا الكلام، ففي الريف قبائل كثيرة “ترفينت” وأصبحت ريفية وتدافع عن الريف بقوة كما تحمل قضاياه، وهذا عكس ما يروجه أذيال المخزن بالريف بين قبائله وشعبه، ولنا من تلك القبائل الريفية التي “ترفينت” وأصبحت ريفية بالثقافة وليس بالأرض: (مطالسة، بني وكيل، قبائل سهل زايو…. وغيرها من القبائل الريفية التي أخذت الهوية الريفية ودافعت عن الريف وشعبه في كل المناسبات التاريخية) وليس هناك من يمكنه أن ينكر على هذه القبائل هويتها الريفية.
أما من ناحية اللغة فهي كما يقول الفيلسوف مارتن هيدغر: “اللغة منزل الوجود”، أي ذلك الأمان الذي نسكن إليه، فالمنزل هو الملاذ وهو المكان الوحيد الذي يرتاح فيه الانسان، واللغة هي ذلك الوعاء الذي يحتوي ثقافتنا بالتالي هويتنا، لقد كتبنا حول هذه الأمور حينما بدأت معيرة اللغة الأمازيغية داخل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، فتم ضرب اللغة الريفية بـ(“العلم”)، وكون أن هناك أمورا في اللغة الريفية يجب تجاوزها من قبيل المتغيرات الجهوية، وحذف الحروف، ثم تحول الحروف في الريفية، أو حذف المصطلحات الدخيلة من اللغات الأخرى، إلى غيرها؛ شخصيا نعتبر هذه الأمور التي يقوم بها المعهد والقائمون عليه أو “اللسنيون” الذين ينظرون في هذا الاتجاه، حربا على الريف واللغة الريفية وثقافتها.
فاللغة الريفية مثلها مثل جميع اللغات الحية الأخرى في المتوسط، هي لغة متصرفة تحتوي اللغات الأخرى، فكيف تقبلون بمعجم المصطلحات الانجليزية في اللغة الفرنسية وتريدون قتل اللغة الريفية بإدخال المصطلحات الأمازيغية للمناطق الأخرى، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على تأكيد ما سبق ذكره بكون الريف بلد متوسطي ولا يشترك مع الأمازيغ الآخرين سوى الجغرافيا وبعض المظاهر الأخرى التي لا توصلنا للتشابه، بل إن صح التعبير فالريفي يختلف جذريا عن الأمازيغ الآخرين خصوصا على المستوى السيكوسوسيولوجي أو السيكولسني أو السوسيو لسني، وهذا يجرنا لمناقشة الشخصية الريفية في مقارنتها مع الشخصية الأمازيغية الأخرى، فحتى المصطلحات يأتي بها الريفيون من اللغات الأخرى (الإسبانية، البرتغالية، العربية…)، ثم لماذا حذف الثاء وقلبها تاءً؟ أليس في قضية تحول الكاف شينا أو سينا أمر معمول به لدى الأمازيغ، لماذا هذا الثاء بالضبط فهي تميزنا طبعا، ونحن طورنا لغتنا هكذا، لماذا إعادته لما كان؟ ولماذا إضافة الألف لبعض الأسماء التي حذفنا لها الألف مثل (فوس، ذار…) أو لماذا نطق الراء أو الألف في آخر الكلمة؟ نحن طورنا اللغة في هذا الاتجاه واللغة ليس فيها أمور الأصل أو الفصل، فالأمازيغ تمت بلقنتهم بقضية الأصول، فالأصيل لا يؤصل فقط لكونه أصيل في أصله فلماذا يحاول الأمازيغ تأصيل الأصيل؟
إن قضية البحث عن الأصول تسقطنا في قوميات عرقية، وبالتالي هويات عرقية، في حين نحن نتوفر على قومية هوياتية وليست مبنية على العرق، وهي التي تتمكن من إذابة كل الوافدين إليها عن طريق الثقافة وليس الأرض. ويمكننا أن نستدل على ذلك اليوم في وسط المغرب إن سألنا أي فرد من الأفراد ما هي هويته سيقول أنه عربي، فلماذا لم تعطيه وتكسيه الأرض الأمازيغية هوية أمازيغية؟
إذن فالهوية هي نظرة الفرد أو الجماعة أو الشعب لنفسه، بالتالي هكذا فكل منا مختلف عن الآخر، فكل جماعة منا تنظر إلى نفسها كهوية خاصة تجمعنا الجغرافيا لكن لسنا متشابهين في الهوية بالبت والمطلق، فلماذا لا نقول إن الفرنسيين لهم نفس هوية الإسبان أو الألمان أو الطاليان أو البرتغال، بل لماذا لا نقول أن هوية الندلس هي نفسها هوية الكاطالان أو نفسها هي هوية الباسك؟
فلكل هويته ولكن تجمعهم جغرافيا واحدة وهي أوروبا، هكذا يمكننا أن ننظر إلى عالمنا الأمازيغي كعالم متعدد وليس قتل بعضنا البعض فهذا تكريس للنظرة العروبية الحقيقية التي مارسها عثمان على باقي جزيرة العرب، حيث قتل التنوع الثقافي واللغوي أي نشر ثقافة ولغة نجد، ثم انتشرت هذه الرؤية الضيقة إلى باقي العالم الإسلامي منذ تلك اللحظة المشؤومة، ونحن لا نتحامل على عثمان إنما نستعرض التاريخ فقط، أليست العبرة في الإمبراطورية العثمانية في محاولتها محو كل الثقافات التي كانت تحت سيطرتها وكذلك الأتراك والبعثيين اليوم، إلا أنهم اليوم تُقتل مشاريعهم بنفس ما حاولوا به قتل ثقافات وهويات الشعوب، ألم يمت الاتحاد السوفياتي بالتعددية ومحاولته قتل الثقافات الأخرى للشعوب التي استعمرها؟ أو ما الذي جعل شعوب الأمازيغ يقاتلون العرب في غزواتهم على بلدانهم، سوف يقول البعض أنهم كانوا يستعمرون الأرض، وسنرد بلا طبعا فالعرب استوطنوا أراضي كثيرة بشمال إفريقيا وما زالوا يتعايشون مع الشعوب الأمازيغة إلى اليوم، إنما ما حاول العرب فعله هو الإجهاز على ثقافة الشعوب الأمازيغة وبالتالي الإجهاز على هويتهم، ومن هذا المنطلق حاربتهم الشعوب الأمازيغة في كل منطقة من شمال إفريقيا، وحينما تراجع العرب عن محاربة ثقافة الشعوب الأمازيغة بقي أبقتهم هذه الشعوب للعيش على أراضيهم.
إضافة إلى محاولة قتل اللغة الريفية بما يسمى المعيرة؟ إن معيرة اللغة الأمازيغية هي قتل للغتنا وهويتنا التي نتميز بها، وذلك باعتبار أن اللغة بمثابة ذلك الوعاء الذي يحتوي الثقافة، بالتالي الإجهاز عليها إجهاز على ثقافتنا الذي سيجهز على هويتنا فعليا. فقبل عقد فقط كانت تجليات الثقافة الريفية تظهر بقوة وفي كل أفعال وتظاهرات الريفيين، أما اليوم فيتم الإجهاز عليها بدعوى الهوية الأمازيغية، ويوما ما بعد تمدرس أبناء الريف داخل المدرسة واستقدام أساتذة للغة الأمازيغية من المناطق الأخرى لسد الخصاص الذي يتواجد بالريف، سيضحى أبناؤنا يتحدثون لغة (لغات) أمازيغية ليست لغتهم، فهذا ما كنا نناضل ضده مع العربية والتعريب. وإذا به يحدث نفس الشيء مع اللغات الأمازيغية الأخرى، إذن فما الفرق بين التعريب والتمزيغ الذي جاءتنا به الحركة العروبية والحركة الأمازيغة على حد سواء؟ فما كان يمارسه العروبيون إبان الاستقلال الأعرج للمغرب سنوات (56/57/58/59….. وإلى اليوم) عبر الأحزاب العروبية التي كانت تكن العداء للريف والريفيين (من قبيل حزب الاستقلال وحلفائه)، بدأ يمارسه الأمازيغ تحت نفس الذريعة وبنفس الأساليب، والهدف في كل الأحيان واحد وهو مغربة الريف (مغربته سواء بالتعريب أو بالتمزيغ)، وللتاريخ فالهجمة الحزبية الشرسة التي تعرض لها الريف إبان الخمسينيات من القرن الماضي وما تلاها لم تقع في مناطق المغرب الأخرى، بل تم التعامل معها وفق خصوصياتها.
نحن لا ننكر أننا أمازيغ لكن هويتنا لا تشترك مع الأمازيغ سوى في الجغرافيا، كما يشترك الأمازيغ الجغرافيا مع مصر والعرب والأفارقة، وكما يشترك الأمازيغ الدين مع العرب والهنود والأفغان، وأعتقد أن هذه المشاكل العويصة هي التي تعاني منها تركيا، وفرنسا وإسبانيا وكذا بريطانيا وغيرها من الدول كثير، ولنا في شعب شيكاغو أكبر دليل، فهو يمتلك ثقافة مغايرة للأمريكيين بالتالي يطالب اليوم بالحكم الذاتي والاستقلال، ليس لكونه لا يشترك الجغرافيا مع الأمريكيين، أو اللغة إنما لا يشترك معهم في الثقافة هذا المفهوم السحري الذي يؤطر حياة الانسان (طقوسيا، فكريا، تاريخيا، وسياسيا كذلك).
ومن جهة أخرى فالحديث عن كون مناضلي الريف ينتمون للحركة الأمازيغية، فنحن لا ننكر ذلك، فقد كانت مرحلة الانتماء للحركة الأمازيغية مرحلة فرضتها الظروف السياسية والنضالية، فالاختباء إبان التسعينيات التي طبعتها القبضة الحديدية للحسن الثاني على الريف والقمع الشرس الذي طبع علاقته التاريخية مع الريف، داخل الحركة الأمازيغية هي استراتيجية سياسية نظرا لوعي أبناء الريف بالمرحلة الحساسة، وكذا استفادتهم من التجارب السابقة التي مر بها الشعب الريفي جعلهم ينضوون تحت يافطة الحركة الأمازيغية، وأعتقد في هذا الاتجاه أن الحركة الريفية هي حركة شعبية متجذرة عن الحركة الأمازيغية، وهي من كانت السبب في ظهور الوعي الأمازيغي على المستوى القاري لشمال إفريقيا، ونحن نعلم سبب محاربة فرنسا والدول الاستعمارية معها للريف، فلما بدأ القبايليون (شرق الجزائر حاليا) يروجون الحديث عن جيش الريف القادم لتحريرهم أرهب ذلك فرنسا وأربك حساباتها في شمال إفريقيا، خصوصا وأن الجمهورية الريفية آنذاك ظهرت كقوة تشكل توازنا عالميا في منطقة المتوسط، خصوصا بعد الهزائم النكراء التي منيت بها القوات الأوربية الغازية، ففي السنوات التي كان فيها أغلب العالم تحت نير الاستعمار ما عدا الريف، وعت أوربا أن المد الريفي في شمال إفريقيا سيشكل قوة لن تضاهيها أي قوة إن هي نجحت في التوسع، بالتالي كان الريف تلك الرجة التي أيقظت الشعوب من سباتها من أجل التحرر، وليس عيبا على الأمازيغ أو المغاربة (نعني شمال إفريقيا) أن لا يعرفوا هذه الحقائق فالأوربيون يدرسونها في مقرراتهم وكل الشعوب كذلك، إلا نحن في شمال إفريقيا تم تهميش هذه الحقائق. والتساؤل الذي يمكن أن نطرحه هنا:
– من الأسبق هنا؟ هل الحركة الريفية التحررية أم الحركة الأمازيغية؟
– من شكل مكتبا في مصر لتحرير شمال إفريقيا؟ أليس محمد بن عبد الكريم الخطابي؟
– من دافع عن المغاربة يوم تم منحهم دستور 1962، أليس الخطابي الذي نذر كل حياته وعائلته من أجل تحرير شمال إفريقيا؟
إن الوعي التحرري ليس له وطن، إنه وعي أممي فكيف يتم الإجهاز على الفكر لدى الأمازيغ وترهيبهم من المفكرين التحرريين فقط لأن العروبيين ومتبني العروبة والبعثيين يتبنون أفكار هؤلاء المفكرين العظماء، من قبيل ماركس، فماركس ليس عربيا بل أمميا؛ والسؤال هنا هو كيف يتبجح الأمازيغ ودعاة الأمازيغية بالاستفادة من عصارة الفكر البشري، في حين يعادون كل ما هو نابع من فكر ماركسي، وهلم جرا مع مفكرين آخرين الذين طبعوا حياة الإنسانية بفكرهم وثوراتهم الفكرية، أليس في تنفير الأمازيغ من هذه المنظومات الفكرية نوعا من التواطؤ؟
قد يتجذر البعض بالقول أن الوعي الأمازيغي بدأ مع ماسينيسا ويوغرطة وغيرهم من ملوك الأمازيغ القدامى، فلو كان كذلك لما بقينا إلى اليوم نستعمر بعضنا البعض بالتواطؤ مع الأجنبي الغازي، صحيح أن الملوك الأمازيغ قدموا تضحيات وحاربوا الغزاة، لكن للتاريخ فقط فمعظمهم لجأ إلى الريف وكان أبرزهم الملك الأمازيغي المثير للجدل والقوي الذي باع روما في المزاد العلني “يوغرطة”، الذي لجأ إلى أعالي جبال غوروغو (حاليا) جبال قبائل قلعية.
وللتاريخ أيضا مَن كان سدا منيعا ضد كل الغزوات الأجنبية، والتي حالت دون الوصول إلى شعوب أمازيغ المغرب الآخرين (سوس، الأطلس، الصحراء…)؟ أليس الريف وكانت آخر هذه المعارك هي معركة إسلي مع فرنسا، ثم الحماية التي قدمها الريف لأمازيغ المغرب (حاليا) ضد المد العثماني، بل الريف حاول تحرير الشعوب الأمازيغية الأخرى والتي استعمرتها بعدما كان الاستعمار يأتي من الشمال أضحى في 1927 يأتي من الجنوب، كان الأحرى بشعوب أمازيغ المغرب تحصين الشعب الريفي من الجنوب وليس الانضمام إلى قوات فرنسا “الغوم”.
إن الريف هوية ليست كالهويات الأخرى كما أن “القبائل” هوية خاصة وكذلك الطوارق، وسوس والأطلس، والشاوية ونفوسة وغيرها، كل له هويته إنما تجمعنا الجغرافيا فقط، ولهذا فليتحرر الأمازيغ كل في ثقافته وهويته، ولنترك أمر اضطهاد بعضنا البعض، خدمة للأنظمة القائمة (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مالي، النيجير، موريطانيا….) والتي بدورها تخدم صانعتها وأمها الحنون وهي فرنسا وذلك من أجل الاستئثار بالثروة والسلطة.
2- الانتماء
ومن جهة أخرى سنتحدث عن الانتماء الذي يمكن أن يخالف الهوية في بعض الأحيان بل وفي غالبها، حينما نجد بعض المناضلين من الريف يتهجمون بكل الوسائل المتاحة لهم والتي نصفها بالعنيفة (عنيفة لغويا والتي يمكن أن تتطور إلى عنف مادي أو غيره)، على كل من يدافع عن الريف والهوية الريفية لا بل والقضايا الريفية بعيدا عن الحركة الأمازيغية، وكأن الحركة الأمازيغية هي المنبر الوحيد الذي له الحق والشرعية في الحديث عن الريف وقضاياه، حقا فإننا نتأسف لذلك، فمثلهم في ذلك مثل أولائك المافيات (أو الأفراد) الريفية التي تتورط بالانتماء لحزب أو جماعة معينة، فتحاول تصريف كل القضايا الريفية وفق رؤية تلك الجماعة أو وفق رؤية إيديولوجية ذلك الحزب، وشأنهم في ذلك شأن مافيات المال والمخدرات بالريف الذين ينتمون قسرا إلى جماعات وأحزاب مغربية عنوة وذلك من أجل حماية أموالهم وممتلكاتهم، ونحن لا نتحامل عنهم إلا أنه واجب عليهم ترك الريفيين يناضلون على ما تبقى من الذات الريفية والهوية الريفية، وإن اقتضى الأمر مساعدتها لمن أتيحت له الفرصة، ونحن على علم أنهم يتألمون داخليا على الريف وما آل إليه إلا أن انتماءهم إلى تلك الجماعات ولو أنها تحيك للريف الدسائس وهم واعون بذلك، لا يعطيهم الحق في الابتعاد ونسيان الريف وقضاياه، فالتاريخ لن يرحمهم سوى إن ساهموا في تحريره وتنميته، فكم من حياة سيعيشها هؤلاء؟
ونحن واثقون أن لهؤلاء غيرة على الريف، إنما انتماءهم إلى هذه الجماعة (أو الحزب) هو الذي يجعلهم ينظرون إلى الريف وقضاياه من منظورها؛ محاولين في ذلك سد الطريق على الجميع إلا هم وجماعتهم التي انتموا إليها، وهم في ذلك ينظرون إلى أنهم يرون الحقيقة أو ذلك الجانب الواقعي للقضية الريفية من خلال رؤية تلك الجماعة (أو الحزب)، إلا أن الإنسان وخصوصا منه المناضل ونحن نركز على المناضل هنا (فقط لأنه ضمير الشعب والقضية ودفة السفينة)، لا يمكنه أن ينتمي إلى جماعة ما بشكل دائم خصوصا إن كانت توجهات هذه الجماعة لا توافق تطلعات شعبه وقضيته.
فالأمر يشبه التنكر لعائلتك بعدما تزوجت، وشخصيا أرى أن الانتماء لا يجب أن يكون في الريف إلا للريف والقومية الريفية والهوية الريفية التي تجمعنا كشعب متميز مثلما هو الشأن بالنسبة للشعوب المتوسطية الأخرى، فالهوية الريفية لا تنظر إلى انتمائك الإيديولوجي بقدر ما تنظر إليك على أنك ريفي وانتهى، كما هو الشأن للأكراد الذين تجمعهم قضية واحدة وهي القضية الكردية والحلم الكردستاني. فما العيب في أوجلان الذي تبنى الماركسية كإيديولوجية نابعة من كردستان وليس من البعث العربي، حيث جمع بها الشعب الكردي الأبي؟ (كل التحايا للشعب الكردستاني)، ومن هذا المنبر أدعوا ريفيي الحركة الأمازيغية إلى النضال وفق رؤيتهم وأن يتركوا الآخرين يناضلون وفق رؤيتهم، عسى أن نكون رؤية كاملة لكل القضية الريفية من جميع نواحبها.