بقلم : محمد إكعبوني
كان يوم الخميس حين أوصتني والدتي بأن أحضر لها (الكافور) لكي تضعه وسط الملابس، وتفوح رائحته فيها، يوم الخميس هو يوم السوق، حيث يتسوق الناس إلى أجدير من كل الدواوير المجاورة له.
كنت وقتها، تلميذا في السنة الثالثة إعدادي. خرجت من المنزل صباحا حوالي التاسعة، لا أدرس فترة الصباح. كان الجو حارا، والطريق إلى السوق طويل. كنت أسأل الله في قرارة نفسي أن يحن قلب سائق من سائقي السيارات، فيتوقف عندي ويركبني معه. سبع كيلومترات ليست بالهينة والشمس ساطعة لا يحجبها إلا بعض أشجار الصفصاف. ولكن الصفصاف لن يرافقني طول الطريق والشمس لن تتوقف عن مطاردتي. معاناة هذا الوادي لا تنتهي أبدا، ففي الشتاء لا يفرغ من المياه الكثيرة التي تجر كل شيء اعترض سبيلها، وعلى جوانبه يستقر الصقيع الذي يعصر أضلع من لم يلبس عشرة جوارب أو أكثر، كنت ألبس جواربي وجوارب أمي و جوارب أبي، وحتى جوارب إخوتي دفعة واحدة، وألبس معطفا على معطف وداخلهما ما وجدته أمامي من الملابس، كان الحظ يبتسم لي أحيانا حين أدرك المؤسسة دون أن أقع وسط الماء، وفي أحيان أخرى يشرب ثوبي الماء حتى يشبع ويهجم علي البرد، فيفعل بي فعلته.
وأما في الصيف حرارة الشمس سيدة الميدان، تذيب كل شيء حتى الحجر، لولا خوف الواحد من أن يتهموه بالزندقة لمشى عاريا كما ولدته أمه. كان الجو صيفا والفصل ربيعا، أحيانا تتقلب موازن الأجواء، وتأخذ الفصول مواقع بعضها، وفي أحيانا أخر يعيش اليوم الواحد أربعة فصول دفعة واحدة. لا سيارة تتوقف هذا اليوم، كلها عامرة بالمسوقين(أمسواق) الذين يتسوقون من الدواوير البعيدة، وحتى إن توقفت إحداها فهي لن تتوقف عندي، فلا عمل إنساني فهذا اليوم، كل واحد يبحث عن رزقه، وأغلب الأسرة تعول على يوم الخميس فقط، ومنه توفر قوت أسبوع كامل، فمن ذا الذي سيضحي بقوته ورزقه ليركب أمثالي في هذا اليوم الميمون ؟ أدركت السوق بعد أن تبلل قميصي بالعرق، قصدت عينا صغيرة يسقي منها الناس الماء، وماؤها مالح. تقع على أطراف الوادي في ظهر السوق. صبنت القميص، فجف بسرعة كبيرة لشدة الحرارة، ففي هذه الحرارة البيض إن كسرته يطيب لنفسه. عدت إلى السوق فبدأت أغوص فيه طولا وعرضا، وكنت اتفقد بين الفينة والأخرى الخمسة دراهم التي أعطتها لي والدتي لأشتري لها الكافور، لا أملك سواها فإن ضاعت ستوبخني، رغم أني لا أخافها، لكني سأشعر بذنب كبير يطاردني إن لم أقضي حاجتها، فحاجة أمي قبل كل شيء. اشتريته أخيرا، فوضعته في المحفظة.
وصل وقت الدراسة، وكان أكره شيء عندي هو تلك التلة التي لا أعرف لماذا عاقبنا الله بركوبها يوميا قصد الدراسة. أيعقل أن يكون عاقلا من أعطى أمره ببناء إعدادية في قمة التلة ؟ ألم يكن مخدرا بنبتة سيدنا الحشيش؟ لم أكن أضرب حسابا للمسافة التي أقطعها من الدوار حتى الإعدادية بقدر ما أفعل مع تلك التلة، العذب الأليم. كنا سزيفيين نحاول حمل صخرة الدراسة من الهضبة إلى قمة الجبل، فتسقط منا في كل مرة، ونعاود الكرة مرة أخرى، كما عاودتها الأجيال السابقة واللاحقة. وصلت إلى الإعدادية بعد أن اعوج ظهري، فدخلت حصة الرياضيات، وكانت من أكره المواد عندي، رغم أني كنت ذات ميول علمي، لم أكن أدبيا قط. ربما الأستاذ يلعب دورا مهما في عشق التلميذ لمادته، هكذا يقال.
كانت وقتها أستاذتنا في الرياضيات اسمها (نعيمة) إن لم تخني ذاكرتي. لم تكن سيئة، ولا قاسية، كانت من أصحاب الشعار الذي يقول: (قرا ولا لها تقرا، لمنضة ديالي كنشدها كنشدها) لا أختلف مع هؤلاء الأساتذة، فهم صادقون أكثر من غيرهم، فالمدرسة من أجل الدراسة، والأستاذ مهمته أن يدرسك لا أن يرغمك عليها، أو يضيع وقته في كب الماء على عقول من الرمل. كانت الأستاذة حامل في أشهرها الأولى، ولم أكن أعرف ذلك، ولم يكن من شأني أن أعرف، شؤون النساء اخر اهتماماتي، شأن أمي وحده يخصني. فتحت محفظتي لأطمئن على كافور أمي، ربما قد تكون المحفظة مثقوبة فسقط منها. بينما كنت أقلب الكتب والدفاتر وجدت فأرا جثة هامدة وسط كتاب الاجتماعيات، الحصة الموالية للرياضيات. إنا لله وإنا إليه راجعون، مات هذا الفأر المسكين وسط محفظتي ودفن وسط كتاب الاجتماعيات وبالضبط في دروس التاريخ. هل يعقل أن يكون قد اغتاله أيضا ذلك الطالب الصربي الذي اغتال ولي عهد النمسا ؟ ولكن الفأر المسكين لم يكن حاكما ولا ابن حاكم. هذا هو دور التاريخ، أن يكون مقبرة كل مغدور ومغتال، ولا غاية من الاجتماعيات التي كنا ندرسها سوى تشيع جنازة الفئران. رحمة الله على الفأر الذي ترك الشعير والقمح واللبن والجبن، فمات شهيدا وسط كتبي الممزقة والمثقلة بالأكاذيب والأساطير. لم أخبر أحدا بسر الفأر تركته في مكانه حتى تنتهي الحصة واتخلص من جثته. أخرجت الكافور. كنت أحب رائحته كثيرا، فانتابتني الرغبة في حكه بين يدي لأشم رائحته، خير من رائحة عرقي وعرق الزملاء الممزوجة برائحة الأحذية التي تقطعت وهم يقطعون كيلومترات طويلة ويركبون الصعاب والمخاطر، ليدرسوا الكوارث الطبيعية والمخاطر البيئية بالولايات المتحدة الأمريكية. فاحت رائحة الكافور في القسم، فأدركت أنف الأستاذة. تغيرت ملامح وجهها، فراحت تسعل دون توقف. قالت بصوت متقطع :
- من أحضر هذا الزفت ؟ لا أحد يعرف شيئا، الرائحة موجودة، ولكن المصدر لا يمكن معرفته، عليك احضار الشرطة العلمية يا أستاذتي، هكذا قلت في نفسي.
وقلت أيضا : أيعقل أن يكون ثمة من يكره رائحة الكافور ولا يصبر عليها، ولكن في المقابل يصبر على رائحة العرق والأحذية؟ تضاعف سعال الأستاذة حتى كادت تسقط، توجهت نحوي، لقد عرفتني من ابتسامتي، هذه هي مشكلتي لا أستطيع اخفاء أفعالي، إما أبتسم بدون توقف وإما تحمر وجنتي. كانت أمي تستطيع أن تعرف بسرعة، إذا سرقت لها شيئا، أو إذا فعلت أمرا ما، تعرفني من خلال ابتسامتي. حين أفعل، فأنا أبتسم أو أضحك، وحين لا أفعل تكون ملامحي مستقرة، حاولت كثيرا أن ألعب على هذه النقطة، وأتحكم في البسمة لأخفي أفعالي، لكن دون جدوى.
- أنت إذن ؟
- ماذا فعلت أنا ؟
- أسألك لتجيب، لا لتسأل.
- لم أفعل شيئا يا أستاذة.
- لم أحضرت هذا الزفت إلى القسم؟.
لم أقدر على شرح لها السبب الذي جعلني أشتريه، فذلك شان بيني وبين أمي، ولا يعنيها في شيء إن عرفت. قلت لها :
- أين العيب في احضاره؟ فقدت أعصابها وانهارت غاضبة وهي تقول :
- خرج علي، يله خرج عللي من نهنا.
- لن أخرج أبدا، لأني لم أفعل شيئا.
- ستخرج وربي كبير.
- لن أخرج حتى لو أحضرت المدير.
اختفت لبرهة حتى عادت مصحوبة بالمدير سي فريد رحمة الله عليه. وقف في الباب شامخا بقامته الفارعة. نظر في كل أرجاء القسم الذي كان يعوم في سكوت رهيب. قال بصوته القوي :
- شكون هد لحمار ؟ شكون ..؟ لا أحد تحدث، إلا أن نظرات البعض لا تفارقني، بمعنى (هو هذا). وقفت وتلك الابتسامة اللعينة تتضاعف لتسبب لي المزيد من المشاكل وقلت قبل ان تشير الأستاذة بأصبعها نحوي:
- أنا الذي تبحث عنه، لكن أنظر جيدا لا أملك أذنين كبيرتين، لذلك فأنا لست حمارا، فللحمار أذنان طويلتان. خرج القسم من بحر السكوت ليدخل بحر الضحك. قال وهو حائر بين ضم صوته للضحك مع التلاميذ، وبين ضمه إلى غضب الأستاذة التي لا تقنع حجتها في الغضب، لكن المرأة حامل لا يمكن أن تكون ضدها حتى لو كانت على باطل. جرني معه إلى الإدارة وهو يركلني حتى أدركنا مكتبه. أخرج أنبوب الغاز(تيو دلبوطا) فراح يضربني على يدي، مع كل ضربة يتضاعف ضحكي، هو يضرب وأنا أضحك.
- الأستاذة حاملة ونتا بغتي تقفسها وتوحلنا.
- يا أستاذ رني والله ما عرف، وأصلا لم أفعل لها شيئا سوى أني أحضرت معي الكافور.ضحك وهو يقول :
- جمع علي دوك اليدين ديل لبالة حتى حاجة مكتكر فيهم، ورا لي دك الكافور هنا وسير جيب والي الأمر ديلك نتا ما بغيش تقرا. في اليوم الموالي لم أحضر معي أحدا، وجدت الحارس العالم ورفض اعطائي ورقة الدخول، فذهبت عند المدير سي فريد، وبمجرد أن رآني قال لي :
- جيتي عاود تفقسها، فين والي الأمر؟
- نجيك لصراحة أ أستاذ والي الأمر شعاره قرا ولا لها تقرا، أما أمي فإني أقسم بسيدنا عيسى وموسى حتى لسيدنا نوح، أنها لن تأتي معي إلى المدرسة. هل أنا أحمق حتى أحضر معي أمي إلى المدرسة ليراها العالم ؟ يكفي أني لم أحضر لها كافورها ولم توبخني، الكافور الذي سلبته مني باطلا. قد حسبتني جعت فأكلت بثمنه. رافقني إلى الحارس العام، فناولي ورقة الدخول، ولم يتركني أذهب حتى مسكني بقوة من أذنيي قائلا:
- تعاود تقلق الأستاذة نقطعهم لك. لم يكن فعلا عنيفا، كان يحاول رحمة الله عليه أن يظهر بعض الجدية والقسوة اللتان يفرضهما مركزه، إلا أن شفقته علينا كانت تغلب طابعه، لأنه ابن الأرض ويعرف جيدا الظروف التي نمر منها، فهو أيضا عاشها ومر منها.
محمد اكعبوني، مكناس، 29 ماي 2020.