الأربعاء، 27 نوفمبر 2024

بلدة "إحموتن" .. أسلوب جميل في سرد عميق .. بقلم : منير فريطس



في قلب جبال الريف الشامخة، تقع قريتي أحموتن، قرية هادئة تحمل في طياتها ذكريات لا تُنسى.

كل ركن فيها يروي حكاية، وكل لحظة عشتها بين أحضانها ما زالت تتردد في ذاكرتي كأغنية قديمة.

العرس في أحموتن
حينما يحين موعد العرس في أحموتن، تتحول القرية بأكملها إلى ساحة فرح تضج بالحياة. تنطلق الزغاريد من كل بيت، وتزدان السطوح بألوان الزينة البسيطة. تلتقي العائلات، وتُقدَّم أطباق "الكسكس" و"اللحم" بسخاء لا مثيل له. أما العريس، فيرتدي الجلباب التقليدي، محاطًا بأصدقائه وأقاربه، يتقدّم موكب الزفاف بحماسة، ترافقه دقات الطبول و"الغيطة"، مخلِّفةً وراءها لحظات من البهجة التي تبقى محفورة في الذاكرة.

لم يكن العرس مجرد مناسبة، بل كان حدثًا يجمع كل أهل القرية، كبارهم وصغارهم. أذكر أني كنت أقف في زاوية القرية، أراقب الجميع، وكانت عيني تبحث بين الوجوه عن تلك الفتاة التي خطفت قلبي منذ صغري، تلك التي أحببتها سرًا دون أن يجرؤ لساني على البوح بمشاعري.

موسم الحصاد
أما في موسم الحصاد، فإن الأرض في إحموتن كانت تستعد للعطاء. تكسو الحقول سنابل القمح والشعير، ويجتمع المزارعون تحت أشعة الشمس، يغنون أهازيج الريف وهم يجمعون الغلال. كنا نحن الصغار نلعب بين الحقول، ننظر إلى آبائنا يعملون بلا كلل. كان موسم الحصاد يمثل عرسًا آخر للأرض، وتأتي النسوة بماء من "عين الشيخ"، تلك العين التي لطالما كانت رمزًا للعطاء والنقاء في القرية.

عين الشيخ
عين الشيخ ليست مجرد عين ماء، بل هي شريان الحياة في قريتنا. كانت تجمع حولها النساء لجلب الماء، وتنطلق منها الضحكات والأحاديث التي تربط بين أجيال القرية. وكثيرًا ما كنت أجلس عند تلك العين، أسترق النظرات إلى الفتاة التي أحببتها، وهي تحمل جرتها بتلك الرشاقة والبساطة. كانت تمرّ بجانبي، وأشعر وكأن الأرض قد توقفت عن الدوران للحظة. لم أتجرأ يومًا على التحدث معها، لكن وجودها كان كافيًا ليجعلني أعيش حلمًا جميل.

في قلب قرية أحموتن، لم تكن كرة القدم مجرد لعبة، بل كانت تحديًا يحمل في طياته فخر القرية بأكملها. في وادٍ واسع بين الجبال، كنا نجتمع كل أسبوع لنشهد المباريات التي تجمع بين أحموت والقرى المجاورة مثل برارات، بوسلي، وازموران. كان الملعب الطبيعي في الوادي هو مسرح المنافسة، حيث لا يكسوه العشب الاخضر وتحيطه الأشجار من كل جانب.

كان الجميع يتحمس لهذه المباريات، فهي ليست مجرد رياضة، بل تحدٍ بين الدواوير لإثبات التفوق والمهارة. يتجمّع الشباب من كل قرية، يرتدون قمصانًا بسيطة تميّزهم، والأحذية الرياضية التي رغم تواضعها، كانت تحملهم في جولات طويلة من الركض والعرق. وكان الجمهور، من رجال وأطفال، يتجمعون حول الوادي، يهتفون بحماس، وكأن المباراة هي معركة شرف بين أبناء الجبال.

عندما تواجه أحموت خصومها من برارات أو بوسلي أو ازموران، كان التحدي يبلغ ذروته. كل مباراة كانت تحكي قصة تنافس قديم، يحاول كل فريق أن يثبت أنه الأجدر بالفوز. وكان المشهد الدرامي يتكرر في كل مرة؛ هجوم، دفاع، وأحيانًا جدل حاد حول قرار الحكم، الذي غالبًا ما كان واحدًا من أهل القرى نفسها، محاولًا أن يكون عادلًا وسط كل هذا الحماس.

أذكر جيدًا إحدى المباريات الحاسمة، عندما سجل لاعب من إحموت هدفًا في الدقيقة الأخيرة ضد بوسلي. كان الوادي يهتزّ من صيحات الفرح والتهليل. في تلك اللحظة، شعرت وكأن القرية بأكملها قد انتصرت، وليس الفريق فقط. بعد كل مباراة، كنا نجتمع مع أهل القرى المجاورة حول أكواب الشاي بالنعناع، نتبادل الضحكات والذكريات، وكأن المباراة كانت مجرد وسيلة لجمعنا.

لم تكن كرة القدم في إحموتن مجرد رياضة، بل كانت رمزًا لوحدة القرية وتحديها للصعاب، وتأكيدًا على أن الانتصار الحقيقي يكمن في الروح الجماعية، سواء في الملعب أو خارجه.

الفتاة التي أحببتها
قصتي مع تلك الفتاة بدأت منذ أن كنا أطفالًا. كانت تعيش بالقرب منا في إحموتن، وكنا نلتقي في المدرسة وفي الطريق إلى المنزل. كنت أراها كل يوم، ولكن كل لقاء كان يحمل في قلبي شعورًا مختلفًا، شعورًا لم أفهمه في البداية. كنا نلعب سويًا في ساحة المدرسة، وأحيانًا نتبادل نظرات سريعة على الطريق. لكنني لم أكن أملك الجرأة لأبوح لها بما في داخلي.

كبرنا، وكبرت مشاعري معها. كل يوم كنت أراها، وأتمنى لو أنني أستطيع أن أخبرها بحبي. لكنها كانت دائمًا محاطة بأخيها وأختها، ولم يكن لدي أي فرصة للتقرب منها. مرت السنوات، ورحلت هي مع عائلتها إلى مكان آخر، ولم أعد أراها. لكن ذكراها بقيت في قلبي، وكلما عدت إلى إحموتن، كانت تعود تلك الذكريات، وكأن الزمن لم يمضِ أبدًا.

النهاية
قريتي أحموتن ليست مجرد مكان، بل هي قطعة من الروح. كل زاوية فيها تروي قصة، وكل ذكرى فيها تحمل مشاعر لا يمكن نسيانها. بين العرس وموسم الحصاد وعين الشيخ وعيد العرش، وبين تلك الفتاة التي أحببتها منذ طفولتي، أجد نفسي دائمًا أعود إلى إحموتن، حتى وإن كنت بعيدًا عنها بالجسد.