الأربعاء، 23 أغسطس 2017

مقالات| بين الضفتين ، إهداء إلى كل مهاجر ترك الأرض مكرها.. بقلم : هشام العاصمي

بقلم : هشام العاصمي

كان علي أن أتذكر بعد طول السنين ذلك المساء البعيد، حين برقت في رأسي فكرة الرحيل، بعد أن ضاع كل حلم داخل صندوق الوطن.


حين نظرت ألى أبي و التجاعيد آخذة في التمدد تمدد البحر عل الشطآن، و تشققات يده الشاهدة على قطع الخبز التي كنت ألوكها كل يوم و أنا في غمرة من نفسي، دون أن أحسب حسابا للجوع، حين نظرت إلى ثيابه البالية و الباهتة التي تختصر نظافة ثيابي بمعنى من المعاني، و حين رأيت تعب الحياة يرقص بين بيت الطعام و غرفة النوم، و حين جلست إلى أمي التي أرهقها المرض، و أعياها الإملاق، و هي على أمل أن أكبر لأسدد الديون، و أصلح ما أفسدته السنين، و حين تجولت في المنزل الذي لا نملكه لأتذكر معنى التشرد في الواقع و المجاز و أستشف الرابط بن المنزل و الوطن.

كان علي أن أتذكر ذلك المدشر، على هامش تلك الضفة الفقيرة، و أن أتذكر تلك اللفافات و الكؤوس، التي كانت تحملنا بعيدا، فوق السحاب، متناسين أشكال الأزمات اليومية التي تبدأ بالإستيقاظ فجرا و الجري وراء القطعان على الروابي المكللة بالكلأ الرطب، و تنتهي بملأ الجرار بالمياه العذبة التي يجود بها بئر القرية، قبل أن يسدل الليل خيوطه معلنا نزوح الذئاب و الثعالب باحثة عن فريسة شاردة، و أنا أتنقل بين محطات المذياع، داخل غرفة بها كانون متوهج، و قنديل يضيئ ربع الغرفة، باحثا عن أغنية شجية، أو مباراة في البطولة الوطنية، بعيدا عن نشرة الأخبار التي كانت تأتي بالفاجعات و القتلى في فلسطين و الشيشان و باكستان.

كان علي أن أتذكر مظاهر الفقر، و الحاجة التي جعلت قطع الخبز، و بدلات جديدة، لأبناء جيلي أحلاما، تقض مضاجعهم في كل حين. في ذلك المساء إمتلأت بكل أسباب الرحيل بحثا عن فرصة، عن أمل، عن حلم، في أرض أخرى أو في ضفة أخرى. فتراءت لي المسافات تختصر بين الضفتين في ليلة مقمرة، إنطلق فيها زورق بمحرك صغير، في كبد البحر الهادئ، تاركا وراءه تلك المعاناة و دموع أمي الرقيقة.

في قلب البحر، مر شريط حياتي الكئيب في الضفة الفقيرة، و تراءت لي الأحلام الوردية، و أنا أنظر إلى فوق، أنتظر عدل السماء في الضفة الأخرى، فتوردت على فمي إبتسامة سكنت لها فرائصي، عندما فكرت للحظة أن أبي سيرتدي بدلة نظيفة، و أمي ستخلد إلى النوم قريرة العين. قبل الفجر بقليل أدركنا الشاطئ و تحسسنا ذرات الرمال للتصديق، بعد أن كنا لقمة و عشاء دسما للسنون، إفترقنا و تعاهدنا أن نلتقي في الضفة الفقيرة يوم تأذن السماء.

كذلك كان فوق تراب أرض غريبة تنبت كل شيء، حتى الحب و الإحترام، و فرص كثيرة كان نصيبي منها وفير، فانصهرت في العمل، لأدرك أول راتب، يحمل خبر وصولي لأبواي، اللذان يعتقدان أني لا زلت في الناظور. كان علي أن أتذكر كل هذه المأساة التي لفظتني و أوجدتني في ظروف ساخرة، لأضيع من جديد في ضفة أخرى، بين الغنى المادي و الفقر العاطفي، بعدما قايضت أسرتي، بيتي الطيني، قطيعي، أبناء جيلي، و موطني "بأرويات" تشتري كل شيء إلا أحداث بلدتي، فأدركت في الأخير مفردة ضائعة بين الضفتين، هي الوطن.

هكذا نطق و تكلم و هو يتأمل الشمس تغازل السفوح، و هي تهم بالغروب، هكذا قبل أن ينهي سجارة شقراء، و هو يبدي ندما و أسفا على الوطن المغتصب، و المسلوب، و قال بكلمات نابعة من عمق الوجدان "غدا غدا سيتسع الأفق و سينتهي كل شيء، علينا فقط أن نتشبث بالأمل"، ترك المكان و غاب في ممر بين الصخور ملبيا نداء أبيه.