بقلم : حسن الزكريتي أگزناي
لم يشمل الاهتمام الأكاديمي بتاريخ الكفاح
المسلح بالمغرب مع مطلع النصف الثاني من القرن 20 مثلما شمله مع بداية
القرن 21، حيث برزت كتابات تاريخية (أو مونوغرافيات) متعددة تؤرخ لفترة
المقاومة للاستعمارين الفرنسي و الاسباني و تحديدا لجيش التحرير الذي يعتبر
من المحددات الرئيسة – إن لم يكن أبرزها على الإطلاق- في تحقيق الاستقلال
من منطقة الاحتلال الفرنسي (مارس 1956) ثم الإسباني جزئيا (منذ أبريل
1956).
لكن طبيعة هذه الكتابات (و هي أقرب إلى
المونوغرافيا) و ما تحمل في طياتها لا يمكن أن تترك الموضوع يمر بلامبالاة
لدى المهتم بتاريخ جيش التحرير نظرا لما تحمله من انزلاقات معرفية و منهجية
لا يمكنها إلا أن تؤدي إلى "أسطرة" تاريخ هذه الفترة الحرجة من تاريخ
المغرب و التي لا زالت تلقي بظلالها على واقعنا الاجتماعي-السياسي إلى حد
الآن.
الملفت أن عدد الأبحاث المنشورة يصل بالكاد
إلى عشرة إصدارات ذات طابع أكاديمي (حسب الرصيد المتوفر لدى "المكتبة
الوطنية" ) إذا استثنينا إصدارات "المندوبية السامية لقدماء المقاومين و
أعضاء جيش التحرير" ( و هي كثيرة و لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتبنى
هذه المؤسسة إلا نشر الأعمال التي "تنسجم" مع الرواية الرسمية للدولة و لا
ترى مانعا من نشر الأساطير و المناقب) و جلها تحمل في مضامينها شهادات
لشخصيات عاصرت هذه المرحلة التاريخية.
و في العقد الأخير ظهرت بعض الدراسات التي تتحرى الحقيقة و أتت بمعطيات جديدة و لكنها لم تأت بمضامين جديدة بل إن عناوين بعضها- لحماسة كتابها و بحثهم عن عناوين مثيرة - توحي بدلالات مناقضة لمضامين المتن بل يطبعها اللبس أحيانا ، و ينفرد محمد لخواجة بمؤلفين حتى يكاد يصبح "مرجعا" لتاريخ جيش التحرير بمنطقة الريف في ظل الفراغ الذي تعرفه الكتابة التاريخية من حيث الأعمال الجادة ذات المنهجية السليمة و قد سبق له التقديم لمذكرات الضابط الراحل "عبد العزيز أقضاض الدوائري" كنوع من التزكية لمضامينها في أسلوب أقرب إلى أدب المناقب ثم نراه يعنون مؤلفه ب" جيش التحرير المغربي 1951-1956 ... ومذكرات للتاريخ أم للتمويه؟" كنوع من التشكيك في الروايات و المذكرات و هو من أشرف على نشر إحداها ! فضلا عن اللبس الدلالي الذي يشعر به القارئ في قراءة عنوان كتابه الثاني " عباس المساعدي : الشجرة التي تخفي الغابة" و هي شخصية عبر في مناسبات عديدة عن تقديره لها ! و هو ما يتناقض مع المعنى الدلالي للعنوان !
لا شك - لدى الباحث الأكاديمي و المتلقي
الواعي- أن الاعتماد على الشهادات و المذكرات هو نوع من الاستماع إلى "صوت
الحوريات" أو كالرؤية بعين واحدة أو الإطلالة باحتشام من ثقب الباب حيث لا
يرى إلا جزء صغير من الحقيقة ! و لا شك أن القارئ أو الباحث سيصاب بالحيرة و
الإحباط لأن مجموع الإصدارات – التي ُيفترض أن تسلط الضوء على فترة
تاريخية مفصلية حتى يتسنى للمتلقي (باحثا أو مهتما) تشكيل لوحة متماسكة و
متناسقة- تجعله أمام لوحة فسيفسائية "مشوهة" تستحيل قراءتها بشكل سليم!
تطرح الكتابة التاريخية للفترة المعاصرة من
تاريخ المغرب كما تعودنا عليها إشكاليات عديدة من حيث المنهجية و مصداقية
أصحابها و هي عموما تعكس نظرة الباحث و المؤرخ و محفزاته لدراسة الموضوع
فضلا عن ميولاته و اختيارته المنهجية في ظل إكراهات عديدة ( مستوى الدراسة
الأكاديمية للتاريخ – الوصول إلى المصدر الوثائقي إلخ..) و هي في مجملها
"بنائية" (نسبة للبنائية constructivisme)-لكي لا نقول ذاتية- أي تعكس نظرة
المجتمع للموضوع و "بناؤه" لتصور مفاهيم عديدة و تكاد تبدو هذه الظاهرة
"الهيستوغرافية" بشكل صارخ و تحديدا في تاريخ جيش التحرير المغربي. و لا
نكاد نرى كتابة تعتمد على تناول الموضوع بمقاربة "سياقية"
contextualisation فلا يمكن عزل الموضوع عن سياقه الجغرافي و التاريخي و
الاجتماعي و الأنثروبولوجي بل إن استدعاء حقول معرفية أخرى في العلوم
الإنسانية ضروري و يفرض نفسه لأننا أمام منظومة اجتماعية و فكرية و سياسية
كل شيء فيها مترابط و متشابك و لا تستقيم الكتابة التاريخية لهذه الفترة
بتجزئة العناصر. كما إن الأخذ برواية أشخاص معاصرين لفترة الكفاح المسلح
دون تحري الحقيقة و استدعاء المصادر الوثائقية الوطنية و الخارجية من فرنسا و إسبانيا تحديدا، هو مجانب للصواب و هو أسلوب متبع في الأشرطة الوثائقية.
لا شك أن الاعتماد على المونوغرافيا
التاريخية و المذكرات الشخصية كمصادر وحيدة من شأنها خلق ذاكرة مصطنعة و
معطوبة لدى الجيل الحالي و القادم إذا لم يتم التأكد من صحتها ومصداقية
أصحابها، وأن يتم إدراجها في المناهج التعليمية لمادة التاريخ و توظيفها
إعلاميا و فنيا (من خلال الدراما التاريخية في السينما أو التلفزيون) لخدمة
جهة معينة، خصوصا أننا أمام حدث مفصلي من تاريخ المغرب المعاصر لا ُيضاهي -
ربما من حيث الأثر و ليس الحجم - سوى حرب َ الريف (1921-1926).
لا مناص - في سياق تسليط الضوء على هذه
الفترة القصيرة زمنيا و الهامة من حيث الأبعاد- من التركيز على مجال جغرافي
اصطلح عليه ب"مثلث الموت" باعتباره بؤرة المواجهات و هو مجال ينتمي
"إثنيا" إلى قبيلة "اجزناية". و لا شك أن هذه الرقعة الجغرافية التي تحيلنا
من حيث التسمية إلى "مثلث برمودا" المميت أخذت نصيبها من الأسطورة، لكن
هذه المرة هي أسطورة صنعها رجال تماهت شخوصهم مع مجالهم الجغرافي، إلى أن
ارتأت بعض الأقلام "رد الاعتبار" لبعض رجالات هذه المنطقة.
و إذا صار عبد العزيز أقضاض الدوائري في نظر
البعض أسطورة باعتباره "قائدا فذا" كما يصفه محمد الخواجة (حتى أن هذا
الأخير بفعل "حماسته" أساء إلى ذاكرة الرجل أكثر مما أحسن إليها) فماذا يمكننا القول عن الحسن بن حموش
الزكريتي؟ الذي كان قاضيا عدلا يصول و يجول في منطقة "اجزناية" و عارفا
بتفاصيل جغرافيتها و مكوناتها الاجتماعية و القبلية وكان تأثيره قويا على
القبيلة برمتها و نسج شبكة علاقات تمتد من الريف إلى فاس مع خلايا و قيادات من جيش التحرير فضلا عن
علاقته مع "الأمير" محمد بن عبد الكريم الخطابي منذ حرب الريف التي شارك
فيها(1921-1926) و حتى و هو مقيم بمصر و كان المشرف المباشر على عبد العزيز أقضاض الدوائري في مركز "بورد" الذي كان يأتمر بأوامره بل كان وراء فتح جبهة "مرنيسة" لاستنزاف
القوات الفرنسية و تخفيف الضغط على منطقة "بورد" (التي عرفت أكبر عدد من
الخسائر في صفوف الفرنسيين). و هو الذي كان وراء بعث وفد لمصر - بعد قضاء
مناسك الحج - لملاقاة محمد بن عبد الكريم الخطابي مما أفضى إلى تأسيس جيش
التحرير من قبلهم و هو القيادي الوحيد الذي تمت محاصرة بيته و
إحراقه و هدمه في القبيلة كلها، و منه كان التخطيط و التزود بالسلاح و
الانطلاق إلى الجبهة و تم تشريد أسرته التي نزحت لدى قبيلة "أشت
ورياغل" بمنطقة الاحتلال الاسباني، و هو الذي قال فيه عباس المسعدي حسب
شهادة سعيد بونعيلات : " أراد الله بنا خيرا باستشهاد الحسن الزكريتي" و هو أحد الشهداء الثمانية الذي ذكرهم الملك
الراحل محمد الخامس في خطبته في الذكرى الثالثة ل"ثورة الملك و الشعب" يوم
20 غشت سنة 1956.
و كيف لشخصية من حجم الحسن بن حموش الزكريتي
بتجاربها و تراكماتها الميدانية أن تقبل بالامتثال تماما لقيادة " دخيلة"
على المجتمع الريفي في شخص عباس المسعدي (و من معه) و بعيدة نسبيا و سيتساءل البعض لم َ كانت قيادة الناظور في شخص عباس المسعدي تراسل عبد العزيز أقضاض
الدوائري و ليس القائد الفعلي الحسن بن حموش الزكريتي؟ المرجح أن عباس
المسعدي كان منزعجا من القاضي الحسن الزكريتي الذي كان صوته مسموعا و لا
يكاد ُيناقش (بالنظر لوضعه الاجتماعي الرفيع) و أسس نواة صلبة من قبيلته
تشمل رفاق السلاح في حرب الريف و أشخاصا مقربين منه و محل ثقة (و هذا أمر
شائع في الحروب) و حاول تجاوزه بالتعامل مع قائد يشتغل تحت امرته و هو عبد
العزيز أقضاض الدوائري مما يعتبر شرخا في التنظيم كان من الممكن أن يؤدي
إلى نتائج كارثية!
وهذا ما يرمي إليه محمد أمزيان في مقاله
المذكور حيث ورد فيه "إنها – أي المذكرات - تصنع "أبطالا" على الورق وتغتال
أبطال الميدان الحقيقيين بجرة قلم. فبالأمس كانت عمليات جيش التحرير تعد
إرهابا في عيون السياسيين، واليوم أضحت "شرفا" يتسارع كثيرون للنهل من
نبعه. تلك الأقلام التي بخست حق الفلاح الريفي في الدفاع عن أرضه، فصورته
عبدا ينفذ أوامر الأسياد القابعين في قيادتي الناظور وتطوان لا يذكر التاريخ مؤسسي جيش التحرير بقدر ما
يركز على القيادات الميدانية و يصفها في كثير من الأحيان بمؤسسي جيش
التحرير مما يثير اللبس لدى المتلقي ! فليس كل من شارك في حرب التحرير
يعتبر مؤسسا لجيش التحرير.
و يلخص محمد أمزيان هذه الظاهرة في أسلوب
بديع قائلا :" وإذا كان الجنود المجهولون أدوا واجبهم الوطني وعادوا إلى
حقولهم دون أن تلتفت إليهم أنظار مغرب ما بعد الاستقلال، فإن بعض المدعين
قد علا صراخهم وانتشر تشويشهم بين الناس وأينعت رؤوسهم دون حرج من محكمة
التاريخ! "
و لكن حري بنا الاعتراف أن هذه الكتابات
المتأخرة على الأقل من حسناتها هي إماطة اللثام عن العديد من الحقائق التي
كانت أقرب إلى المسلمات من قبيل مساهمة قيادات سياسية في تأسيس جيش التحرير
كعبد الكريم الخطيب و بعض رموز حزب الاستقلال حتى انهارت أسطورتهم أو
تكاد!
لا يمكن للكتابة التاريخية بهذا الشكل – أي
استدعاء الملاحم و الرواية الشفوية - إلا أن تنتج الأساطير المؤسسة لتاريخ
تصير مضامينه راسخة في الذاكرة الجماعية الوطنية، بفعل إدراجها في المقررات
التعليمية و و لوجها إلى الخطاب الإعلامي الرسمي و الفني!
و إذا كان في شهادات المعاصرين لحرب التحرير
بجبال الريف الكثير من المبالغات و المغالطات كما جاء على سبيل المثال – لا
الحصر – في شهادات عبد العزيز أقضاض الدوائري، (و هو أمر شائع في سياق
مجتمعات تعتمد على الرواية الشفوية و تؤمن بالأساطير و الخرافات حيث يقدم
لنا وثائق مشكوك في صحتها و أصالتها و غير موقعة بالاسم و تحمل في طياتها
العديد من الدلالات الغريبة) فإن من الغرابة جدا أن يكون الإشراف عليها
أكاديميا و الترويج لها من قبل مؤلفين – يعتبرون مرجعا كمحمد الخواجة - من
المفروض أن يتحروا الحقيقة و الصدق في الشهادات و التماسك و الانسجام في
السياقات من أجل استجلاء الحقيقة التاريخية، و ليس الترويج للأشخاص بسبب
العلاقات الشخصية أو القرابة أو المصاهرة.
لا يمكن للكتابة التاريخية للكفاح المسلح في
شمال المغرب (و الريف الشرقي تحديدا) أن يستقيم دون استعراض السياقات
السياسية في بلاد المغرب و خارجه (الحركات التحررية، فترة ما بعد الحرب
العالمية و إنهاك القوى الاستعمارية العظمى، موازين القوى الدولية جسور
التواصل بين المغرب و بلدان المشرق عن طريق الأمير بن عبد الكريم الخطابي
...)
لا شك أن هناك باحثين جامعيين مغاربة وغيرهم–
في إطار أطروحات جامعية – انكبوا على دراسة هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ
المغرب معتمدين على وثائق من الأرشيف الفرنسي و الإسباني - و ربما الألماني
و البريطاني – بعد "الإفراج" عنها، لكنها حسب علمنا لم تجد لها طريقا إلى
النشر و هذا يطرح سؤالا ملحا: " لماذا ؟" و يدفعنا كذلك إلى السؤال :"هل
للسلطات دور في هذا التعتيم على مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب المعاصر أم هو
قصور أكاديمي و منهجي؟"