تحرير : ميمون مصالي
سبق
لي أن كتبت بجريدة "ثاويزا" بعددها 44 مقالا بعنوان "ثورة 2 اكتوبر 1955
بگزنّاية: ذكرى الوعود الكاذبة والأكباش المشوية"، مساهمة مني في تقريب
الصورة الحقيقية التي تطبع كل سنة الاحتفال الرسمي بذكرى 2 أكتوبر 1955
بأجدير من القارئ.
ولم يكن هدفي منذ ذلك المقال هو التأريخ لمقاومة أبناء گزنّاية لفرنسا إبان الفترة الاستعمارية بقدر ما كان قصدي من وراء ذلك هو إظهار للرأي العام المحلي والوطني استياءنا العميق كأبناء مجاهدين من سياسة التلاعب والتسويف والوعود الكاذبة المتكررة على مسامعنا كلّ أكتوبر، والتي أصمّتنا، ولم نعد نقدر على تحملها، ومطالبتنا بإعادة الاعتبار لنا كمغاربة من نفس الدرجة، ولنضالنا العريق الذي يشهد عليه تاريخ وبطولات أجدادنا وأسلافنا الأوفياء لروح هذا الوطن الكريم.
ولم يكن هدفي منذ ذلك المقال هو التأريخ لمقاومة أبناء گزنّاية لفرنسا إبان الفترة الاستعمارية بقدر ما كان قصدي من وراء ذلك هو إظهار للرأي العام المحلي والوطني استياءنا العميق كأبناء مجاهدين من سياسة التلاعب والتسويف والوعود الكاذبة المتكررة على مسامعنا كلّ أكتوبر، والتي أصمّتنا، ولم نعد نقدر على تحملها، ومطالبتنا بإعادة الاعتبار لنا كمغاربة من نفس الدرجة، ولنضالنا العريق الذي يشهد عليه تاريخ وبطولات أجدادنا وأسلافنا الأوفياء لروح هذا الوطن الكريم.
ولكي
لا أباشر الموضوع الذي يلخصه عنوان ذلك المقال، كان من الطبيعي أن ألجأ
إلى سرد أحداث أول يوم من أيام الثورة ضد العدو ولو بشكل مقتضب. ومن ضمن
ذلك ذكرت ما يلي: »وعبر دوار "إنحناحن" كانوا (أي المجاهدون) يحطمون أعمدة
الهاتف، وكان يتقدمهم أشخاص أو ثلاثة ليتجسسوا ويطهروا الطريق من الجواسيس،
خاصة وأن المنطقة كانت موالية وعميلة لفرنسا، شأنها في ذلك شأن منطقتي
"إهرشيلن" و"ثارا ثازگّاغت" (عين الحمراء)، وذلك حتى لا يفتضح أمر
المجاهدين الذين يواصلون زحفهم في طمأنينة، وكان المتقدمون الثلاثة يقيدون
الحراس المتواجدين في مواقع الحراسة على الطريق«.
لم
أذكر هذه الفقرة من أجل استفزاز أهالي تلك المناطق الثلاث الموالية
لفرنسا، ولا لأخلق جدلا وصراعا بيني وبينهم (...)، وكنت أعتقد، وبكل وضوح،
أنني تعاملت مع حقيقة تاريخية دون نوايا مبيتة أو نزعة "مدشرية" (عوض
قبلية). إلا أنه، وبعد نشر ذلك المقال، أصبحت محط أنظار بعض الأشخاص،
ومتهما بارتكاب جريمة "قول الحقيقة"، هؤلاء الأشخاص الذين لا يفهمون معنى
التاريخ ولا يعرفون كيف يتعاملون مع حقائقه. وقد سارع أحد هؤلاء (...)،
وكان صديقا لي، إلى الرد علي في مقال نشر له في العدد 46 من جريدة "ثاويزا"
(...).
إنني
أؤكد مرة ثانية على صحة ما قلت، وهي حقيقة تاريخية لا جدال فيها، أحب من
احب، وكره من كره، حقيقة ثابتة بشهادة جميع من عاصروا فترة الاستعمار
ببلادنا والذين ما زالوا على قيد الحياة.ومن يخامره شك في ذلك، فعليه أن
يتجول عبر قبيلة گزنّاية ويستجوب أبناءها الذين عايشوا محنة الاحتلال بخصوص
هذه القضية.
والعجب
العجاب أن الصديق إدريس أشوّاف في رده اتهمني بتشويه الحقيقة وتزوير
التاريخ، وأنا لست أهلا لذلك، بل أنا موضوعي وأحب الموضوعية والواقعية
وأعتز بذلك.
لم
أكن لأعقب على ما جاء في رد الصديق. وبعد أخذ ورد ارتأيت ضرورة الرد لكي
أؤكد على صحة ما قلت وأتحمل كامل المسؤولية على ذلك. ومن هنا أطلب من كل
الذين يهتمون بتاريخ المقاومة في گزنّاية، وكل الذين كانوا يكتبون عن ذلك
في "مجلة المقاومة" وفي "ملفات تاريخ المغرب" أن يدلوا بدلوهم في هذا
الموضوع لتكون الشهادة كاملة، لكي لا نخون التاريخ كما يفعل القوميون العرب
.
ومن
منطقة "إنحناحن" أقدم لك أيها الصديق دليلا آخر على صحة ما كتبته ففي
صبيحة ليلة الهجوم على مركز "بورد" يوم الأحد 2 أكتوبر 1955، أطلقت على
والدي المرحوم الذي توفي منذ أربع سنوات (20 فبراير 1997) رصاصة في ظهره من
قبل بعض أحد أشخاص تلك المنطقة (وكان يعرفه والدي جيدا). ففر والدي وتبعه
ذلك الشخص يصرخ من ورائه.. استمر والدي في الفرار لأنه كان بوحده وكان
عائدا من مركز "بورد" بعد نجاح عملية الهجوم عليه ليطمئن الأهالي على حالة
وسلامة المجاهدين. فقطع والدي مسافة تقارب 20 كيلومترا وقد جاب جبال وجداول
"إنحناحن"و"إبقيرن" ثم "أهراس" وظهره يتسربل بالدماء التي سالت من ورائه
وملأت حذاءه. وبالرغم من المحاولات العديدة التي بذلت لإخراج تلك الرصاصة
من جسم والدي في تلك اللحظة وفق الطرق التقليدية، فقد ظلت مغروسة في ظهره
إلى أن أزيلت بفضل عملية جراحية بمستشفى ابن باجة بتازة سنة 1979، أي بعد
24 سنة. وما زلنا، نحن أبناءه، نحتفظ بتلك الرصاصة إلى حد الساعة مع صورة
بالأشعة لمكان تواجدها في ظهر والدي المرحوم.
وعلى
ذكر المصادر التي اعتمدتها في مقالي، فهي تكمن في الرواية الشفوية لا أقل
ولا أكثر، بحكم أن أغلب الرواة عاصروا الفترة الاستعمارية ولهم معلومات
قيمة في هذا المجال. حبذا لو ينقل عنهم الباحثون هذه الحقائق قبل رحيلهم من
هذه الدنيا، خاصة وأن تاريخ المقاومة باگزنّاية ما زال مطبوعا بالشفهية
ولم تدون حقائقه بتفاصيلها. وإن وجدت هناك وثائق تزكي هذه الحقائق فهي في
ذاكرة النسيان، بل التناسي ومغمورة جدا ينبغي البحث الجاد عنها، وهذا ما
يطبع التاريخ الأمازيغي بشكل عام. وما قمت به في مقالي السابق، إنما هو
تسليط الضوء على بعض الحقائق فقط، ولا أدعي الكمال والدقة في ذكرها، وتبقى
قابلة للنقد والنقاش. ومن جهة أخرى، فالعلوم الإنسانية لا يمكن أن تخضع
لمنهاج تجريبي حتى نتحدث، أيها الصديق، عن مصداقية المصادر وموضوعيتها
وعلميتها، وإلى أي حد اعتمدتها أنت في تفنيد حقيقة تاريخية ثابتة يشهد
عليها الجميع، كما يشهد على ذلك التاريخ الفرنسي أيضا إن أمكن للباحث أن
يطلع عليه.
إنني
من خلال هذا التعقيب، أناقش أمرا واقعا ولا أحقد على أي كان، أتعامل مع
حقائق تاريخية كما هي، ولست هنا لأحاسب من تعاون مع المستعمر.
الحقيقة،
كم هي مرة، لذا لا يقبل بها أحد، ولا يستطيع تحملها إلا من كان موضوعيا.
لكن أرى أنه ينبغي من حين لآخر أن نوجه نقدا ذاتيا لأنفسنا وأن نصحح
أخطاءنا بالاستفادة من أخطاء أسلافنا، لا أن نقتصر على ذكر محاسننا
ومزايانا دون مساوئ إن وجدت، ونوهم أنفسنا قبل غيرنا بأننا شعب "مدينة
أفلاطون الفاضلة"، كما ينبغي أن لا نظل متبجحين كالعروبيين بالبطولات
العنترية والهارونية والمعتصمية... إلخ، متناسين ظاهرة وأد البنات في
الجاهلية، وسياسة عقبة القمعية وأمثاله في بلاد الأمازيغ وغيرها.
وإذا
عدنا إلى ظاهرة العمالة للأجنبي فسوف نجد أنها كانت في كل زمان ومكان.
فحتى إثناء حرب الريف التحريرية مع المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي (رحمه
الله) كان هناك عملاء لصالح الإسبان، وخير دليل على ذلك هما "أقرقاش" و"عمر
بويوزان" اللذان ذكرا في ملحمة "دهار ن وبرّان". وكذلك في حرب الفتنام مع
فرنسا ثم مع الولايات المتحدة الأمريكية في ما بعد. وفي أواخر شهر يناير
الماضي تمت محاكمة بعض الفلسطينيين بسبب عمالتهم لإسرائيل، وكان منهم من
حوكم بالإعدام.
إذن
ظاهرة العمالة للأجنبي ظاهرة طبيعية في الإنسان، خاصة ذلك الذي لا تأخذه
الغيرة على هويته ووطنه وشرفه. وإذا دققنا النظر في حالتنا اليوم، نحن
المغاربة أو الأمازيغ بالخصوص، نجد أن معظمنا، وبدون شك عملاء من نوع خاص
وفريد. فهناك أقوام لم يسبقونا إلى الحضارة، ومع ذلك يمارسون علينا غزوا
متعدد الأبعاد والأهداف دون أن نضع له حدا أو أن نفطن له على الأقل، وذلك
أضعف الإيمان. ذلك الغزو الثقافي والفكري، أو ما يمكن أن نسميه باستعمار
الأدمغة والعقول، وهو أخطر غزو نتعرض له في حياتنا اليومية، هذا فضلا عن
الاستغلال الاقتصادي لخيرات وطننا. وبالرغم من ذلك نعتبر أنفسنا أننا شعب
مستقل لكل ما هذه الكلمة من معنى. فأي استقلال إذا كنا نوجَّه بواسطة
"التيليكوموند" "وإذا كنا لا نقود سفينتنا بأيدينا"؟ وأية كرامة إذا كنا
خلقنا بلغة ولا نسيّدها في بلدها، في حين نستعين في إدارة شؤوننا العامة
بلغات الغير؟ وأية سيادة لنا على أراضينا إذا كانت ثرواتنا البحرية والبرية
تستغل من طرف الغير، وإذا ما زالت بعض الثغور محتلة؟ في ظل كل هذا هناك
العديد منا من هم فاطنون للأمر لكنهم لا يحركون ساكنا. أليسوا بذلك عملاء
لهذه الجهة أو تلك؟ إننا أصبحنا عبارة عن أواني في خدمة الغير، بل في خدمة
من يستعبدنا كعبيد في ملْكنا ووطننا! ونحن نساهم دائما في تكريس هذه
الوضعية المتردية، فها هنا تكمن العمالة الحقيقية، العمالة المدمرة،
الفيروس المتناسل. ولا يقاوم ذلك إلا من طرف ذوي الضمائر النيرة، والذين
تجري في عروقهم دماء الأنفة.
وللأسف
الشديد هناك مثقفون أمازيغ بالخصوص مستلبون بفعل هيمنة الإيديولوجية
القومانية المستوردة "بالعشق" من بلدان المشرق، ما زالوا يخجلون من القضية
الأمازيغية، ذلك البعد الحقيقي والأصيل لوطنهم، وآخرون متعلقون بالثقافات
الغربية، فيوهمون أنفسهم أنهم أسمى الناس عندما يتحدثون بكلام عجين من
لغتهم ولغات الغير. هؤلاء ينظرون نظرة استصغار لذاتهم ونظرة استعظام للدخيل
والوارد. من هؤلاء المثقفين إلى أولئك الشباب المقهور والمدمن على جريدة
"من القلب إلى القلب" التي تخلق تجاوبا بين محتوى الصفحات المفضلة لديهم
وبين مكبوتاتهم الجنسية والنفسية، ثم إلى أولئك الذين يتسابقون على جريدة
"الحكومة" يستهلكون بدون وعي ولا انتقاء خطابات وأفكار الاتحاد الاشتراكي
القومية، ذلك الحزب الذي قال الكثير في وعوده ولم يف ولو بواحدة منها لحد
الآن. وعد بالتشغيل في حين أن البطالة تتزايد بسرعة. قال بأنه سينعش
الأمازيغية، فإذا بمسلسل التعريب يتوسع، ويمكن أن نفهم ذلك من خلال نشر روض
الأطفال وبرامج محو الأمية وبرنامج "ألف ـ لام" في تلفزة "اإتم" الذي بدأ
خلا شهر رمضان الماضي. أما "إنعاش الأمازيغية" فهو على خلاف ما نعرفه
وننتظره. أكيد أن معناه حسب قاموسهم هو حمل الأمازيغية على النعش وإقبارها
بعيدا عن ذويها. لكن الأمازيغية بفضل أصالتها وصلابتها ستظل لغة حية، تتحدى
كل القيود والعراقيل، ومستقبل وطننا رهين بغدها الزاهر بدون منازع.
أصف
إلى ذلك دور الإعلام السمعي ـ البصري الذي أصبح يغزو جميع الأسر بفضل
"صندوق العجائب" الموجدو في كل منزل وبيت، له دور سلبي اكثر منه إيجابي، إذ
يقدم أغاني مائعة ومسلسلات فاسدة ومفسدة وبرامج تخرب الأخلاق. فقد عمل هذا
الإعلام على ضرب تقاليدنا وأعرافنا وكسر جدار الحشمة والوقار بين أفراد
العائلة أولا ثم بين أبناء المجتمع ثانيا حتى أصبح التبرج لدى الفتيات
بالخصوص أمرا عاديا لا يجلب العار كما كان الأمر عند أجدادنا ذوي الأنفة
والغيرة على الشرف، أصبحت الفتيات لا يستحيين من آبائهن وإخوانهن بسبب لباس
"الموضة" الكاشف لمفاتنهن. كل ذلك لعبت فيه الدور الفعال الأفلام
والمسلسلات المصرية والمكسيكية المدبلجة، وأصبح من الرقي أن تقلد الفتيات
والنساء لباس وحركات "گوادالوبي" و"سيليستي".ومن الطبيعي والضروري أن
يتحاكين حول قضيتهما.
كل
مظاهر الغزو هذه التي تتعرض لها ثقافتنا وعاداتنا نساهم فيها يوميا
بأنفسنا ولا نحرك ساكنا. فكان لزاما على كل رب أسرة أن يقف سدا منيعا في
وجه هذا الشبح، إلا أن ما يحدث هو العكس، بحيث أن أغلبنا يساهم بشكل أو
بآخر في إبادة خصوصياته ومظاهر حضارته العريقة. فلا أرى في ذلك إلا وجها
آخر لعمالة جديدة. إنني لا أفرق بين من كان بالأمس متواطئا مع الاستعمار
وبين من يوطد أواصر الاستلاب والتبعية بوعي أو بغير وعي، فكفانا عمالة
وتواطؤا مع الأجنبي، ولنتعاون في ما بيننا لفرض وجودنا في شتى الأصعدة،
ماديا ومعنويا، ولنعمل بمقولة أحد المفكرين: »أن يكون المرء ذاته، فتلك هي
الحياة«
ڨيديو: