بقلم : بقلم : ميمون مصالي
عرف المغرب، ككثير من بلدان العالم،
منذ الربع الأول من هذا القرن احتلال أراضيه من طرف القوتين الإمبرياليتين: إسبانيا وفرنسا تحت ذريعة الحماية.
عرف المغرب، ككثير من بلدان العالم،
منذ الربع الأول من هذا القرن احتلال أراضيه من طرف القوتين الإمبرياليتين: إسبانيا وفرنسا تحت ذريعة الحماية.
فحمت فرنسا بالخصوص من كان يتواطأ معها، وضمنت لعملائها هؤلاء الموارد الاقتصادية والمناصب الإدارية حتى أصبح الخونة يملكون السلطة في مراكز القرار السياسي. وهذه الحالة لا زالت قائمة إلى يومنا هذا. في حين ذاق المقاومون أنواع البطش والعذاب من طرف العدو عقابا لهم على موقفهم الرافض للاحتلال. إلا أن سياسة القمع الاستعمارية وتخاذل الكثيرين من العملاء لم يثبطا من روح الوطنية والكفاح لدى المجاهدين، بل زادهم ذلك قوة ومناعة في مواجهة العدو الاستعماري. وهذا ما عرف به المغاربة عبر التاريخ، ورثوه عن بني أمازيغ، أجدادهم الأحرار.
واليوم، نجد أن هذا الشعب العريق، الأمازيغي بامتياز، يعرف مفارقة عجيبة على مستوى التنمية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا. فتعطى القيمة والأولوية للوافد والدخيل، ويقصى ويهمش المحلي والوطني. تنمّى الحواضر والمدن وتنسى وتتجاهل القرى والبوادي في الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن تنمية العالم القروي.
هكذا أصبحنا نجازى جزاء "سنمار" على جميل آبائنا وأجدادنا المجاهدين الذين وهبوا حياتهم وأرواحهم دفاعا عن كرامة وعزة وطنهم، ونقصى من صفحات التاريخ و تزوّر حقائقنا. فيصبح اليوم من كان خائنا بالأمس الوطنيَّ والمجاهدَ تقام له حفلات تكريم وتشريف؛ والمقاوم بالبارحة يصير اليوم ذلك المتآمر والمتخاذل والعنصريَّ. وهذا ما نسمعه ونقرأه كلما أثير ظهير 1930 المشؤوم.
نبذة موجزة عن اندلاع ثورة 2 أكتوبر 1955 بمثلث الموت: منذ استقلال المغرب وقبيلة "اگزناية" تحتفل كل سنة بذكرى اندلاع ثورة ثاني أكتوبر 1955 ضد الاستعمار الفرنسي الذي نهب خيرات البلاد وقتل وشرد العباد، لكن زرع في نفوس السكان روح المقاومة والجهاد. وثورة أكتوبر هذه لم تنفرد بها قبيلة گزنّاية فقط، بل قامت أيضا في مناطق أخرى مثل: إموزار مرموشة، مركز بوزينب بآيت عمارت بإقليم الحسيمة، وكذا مدينة الناظور التي كانت مركزا لإدارة جيش التحرير، والتي عن طريقها كانت تأتي الإعانات والإمدادات للمجاهدين في شتى المواقع ومراكز المقاومة. وقبيلة گزنّاية كانت إبان فترة الاستعمار تتوفر لوحدها على ثلاثة مراكز مهمة تعتبر من أكبر القواعد العسكرية لفرنسا بالمغرب. وهذا دليل قاطع على أهمية هذه المنطقة وما كانت تشكله من أخطار على العدو. وهذه المراكز الثلاثة هي: تيزي وسلي، إيشاوين(أكنول) وبورد. وتتوسط هذه المواقع بلدة أجدير التي توجد بها اكبر مقبرة للشهداء تشمل قبر الشهيد الكبير ورئيس جيش التحرير المرحوم عباس المسعدي. في هذه المواقع كبد مجاهدو گزنّاية العدو الفرنسي خسائر فادحة في العتاد والأرواح لم تتكبدها فرنسا في الأرجاء الأخرى حتى سمّيت المنطقة "بمثلث الموت". واشتهرت گزنّاية بهذا الاسم في تاريخ المقاومة وجيش التحرير.
وما تجب معرفته هو أن المقاومة في هذه القبيلة لم تنطلق مع خريف 1955 ومع تأسيس جيش التحرير فحسب، بل كانت هناك بوادرها منذ 1920 أو قبل ذلك بالرغم من أن القبيلة لم تعرف التدخل الفرنسي منذ بداية نظام الحماية سنة 1912. والدليل على ذلك هو أن المنطقة الخليفية فيما بعد (أعني قبيلتي آيت ورياغل وآيت أوزين) عندما عرفت الاحتلال الإسباني كان العديد من أبناء اگزنّاية يتطوعون للانخراط في جيش بطل التحرير الكبير محمد بن عبد الكريم الخطابي لمواجهة العدو الإسباني. وهذه شهادة العديد من المجاهدين الذين ظلوا على قيد الحياة إلى حدود السنين الأخيرة. أما المقاومة المباشرة والمتواصلة فقد انطلقت شرارتها الأولى مع سنة 1955، وبالضبط في ثورة ثاني أكتوبر الخالدة عندما تأسس لأول مرة في تاريخ المغرب ما يسمى بـ"جيش التحرير" بزعامة المرحوم عباس المسعدي، فكان التنسيق جاريا على صعيد جميع المواقع والمناطق التي تتواجد فيها القوات العسكرية الفرنسية بأن ينفذ الهجوم على العدو الاستعماري في آن واحد، وفي شتى المواقع التي يتواجد بها لإرباك العدو والحيلولة دون قدرته على احتواء المعركة لانشغاله بأكثر من موقع، وبالتالي يعجز عن تطويق المجاهدين في كل المواقع. بيد أن الخطة لم تنجح إلا في مواقع محدودة وهي التي يحتفل فيها بذكرى ثورة ثاني أكتوبر 1955. لم تنجح بسبب تسرب المعلومات إلى العدو بصدد الخطة التي أعدها المجاهدون. ففي قبيلة اگزنّاية ـ مثلث الموت ـ فشل الهجوم على موقعي إيشاوين (أكنول) وتيزي وسلي، في حين كلل بالنجاح فيما يخص مركز بورد (الذي يبعد عن أجدير بـ 20 كيلومترا وعن إيشاوين بـ 40 كيلومترا وعن تيزي وسلي بـ 60 كيلومترا) للوصول إلى مركز بورد، وهي منطقة جبلية بين اگزنّاية ومرنسية وآيت عمارت. قطع المجاهدون مسافات طويلة على الأرجل، أتوا فرقا متفرقة من مختلف الدوائر والأرجاء المحيطة ببلدة أجدير، خاصة من جهتيها الشرقية والشمالية، مرددة شعارات: »لا إله إلا الله، محمد رسول الله ـ الله اكبر، اللهم صلّ عليك يا رسول الله«. هذه الشعارات هي التي كانت تقوي من إيمانهم وعزيمتهم على مواصلة مسيرتهم حتى تحقيق النصر. فكان أن التقت هذه الفرق وانضمت بعضها إلى بعض قرب بلدة أجدير، ومن هناك واصلوا الطريق إلى بورد. وعبر دوار "إنحناحن" كانوا يحطمون أعمدة الهاتف، وكان يتقدمهم شخصان أو ثلاثة ليتجسسوا ويطهروا الطريق من الجواسيس، خاصة وأن المنطقة كانت موالية وعميلة لفرنسا، شأنها شأن منطقتي "إهرشلين" و"ثارا ثازگّاغت" (عين الحمراء). وذلك حتى لا يفتضح أمر المجاهدين الذين يواصلون زحفهم في طمأنينة. وكان المتقدمون الثلاثة يقيدون الحراس المتواجدين في مواقع الحراسة على الطريق. هكذا تمكن أبناء اگزنّاية من الوصول إلى موقع يدعى "البلوطة" قبل "بورد" بحوالي 8 كيلومترات، وظلوا هناك يترقبون لحظة الهجوم المحددة. وفعلا نفذت العملية وانتصر المجاهدون على العدو واستولوا على الموقع، وبعد ذلك تفرقوا، فمنهم من شن الهجوم على مركز بوزينب بآيت عمارت الذي يبعد بحوالي 20 كيلومترا في اتجاه الشمال الشرقي، ونجحوا في العملية كذلك بمساعدة سكان المنطقة، ومنهم من عاد صوب "البلوطة" حيث اصطدموا بالطائرات الفرنسية التي علمت بالخبر وجاءت لنجدة الموقع. فكانت تقصفهم بكل عنف. وانضافت بعد ذلك الجيوش والدبابات، الشيء الذي أرغم المجاهدين على التشتت، وتغلغل معظمهم في غابة جبل "شوين".