الآن هنا، ها هي تلك الصورة ترقص أمامي، ها هو ذلك الشريط القاتم يمر أمامي كما مرت تلك السنين يا معلمي، ها هو ذلك اليوم المسجل في ضمير الأزل، عندما تشابكت يدي الفتية بيدي إثنان من الصبية يتقدمنا أبي و نحن في مسير لاكتشاف شبح هو : "المدرسة".
هكذا تمثلت في ذهني للوهلة الأولى، لأنها سرقت فيما بعد ساعات من حريتي التي كنت أقضيها منغمسا في لهو لا ينتهي الا بسدول الليل.
منذ ذلك اليوم انحصرت حريتي في مكان لم أتعوده و لم يؤلفني، تحده أسوار أربعة، و قانون وضعته يا معلمي، فيه من البنود عصا لمن سولت له نفسه عدم الإنصياع. هاهو يقف أمامي بعد أن طوى الدهر من عمري عقدين و بضع، تعلمت فيها كيف أواجه مصيري، ها أنا صامدا، أستجمع قواي، و كلي وجل من هذه الكلمات، التي كانت ستجر علي "فلقة" لا مفر منها في ناموسك المسنون بلغة الضرب و السب و التنكيل، و لكن مضى زمن الاستقواء و الاستئساد، على ممالك الضعف القابعة داخلي، فارتأيت أن أكتب شيئا أعيش فيه آمنا و لو الى حين.
معلمي، قد أبدو جاحدا، لكن قلبي ممتن كثيرا، و قد أبدو متعاليا لكني ضحية، و فوق كل هذا أنا حزين، حزين فقط على المدارس البسيطة، التي تقبع في تلك التلال و تلك الجبال المغمورة في غياهب النسيان، حزين على البراعم التي ستتجرع الأحرف مع عقد نفسية تبدأ بحمل الكتب، في كيس بلاستيكي للبعض، مقابل محفظة مجهزة ممتلئة للبعض الآخر، حزين يا معلمي على ذلك السؤال الذي يطلب فيه مهنة الأب و الأم، حزين لأنك ستفرض غلافا أسودا لدفتر القسم و قلما أخضر للتصحيح، بينما أغلب الأطفال يستعينون بكل ما تخلف من المواسم الفارطة. حزين دائما لأني تجرعت الألم من عيون الأطفال و هم ينظرون الى لباسي المتآكل، و يسخرون، بينما تضيف أنت مستهزئ : هل مازال في المغرب إنسان فقير؟ سأجيب الآن بكل ثقة و جرأة، نعم يا معلمي، الفقر في كل مكان يجتاح النفوس، يتفرق في المادي و المعنوي و يجتمع في الحاجة، الحاجة التي لا تتوقف في عجلة الحياة.
مرت الأيام و اكتشفت أن فقر النفوس، هو ما يجعل الإنسان يتعالى على المبدأ، آه كم كنت فقيرا يا معلمي، لم تعلمنا الرسم، و المسرح، و الشعر و الإبداع، لنصبح ناقدين، نفهم الرسائل المدمجة في مناحي الحياة، لنبدع كيفية عيش تليق بنا كإنسان، لم تحفز مادتنا الرمادية، و لم تحيي فينا ملكتي نقد الجاهز، و البحث عن جديد يرسم سكة أخرى غير سكة القطيع.
الآن أذكر، الآن فهمت معنى إعادة الإنتاج، و ذلك كان عندما كنت تطلق العنان للتلاميذ، أن يقرؤوا صفا في تلك القراءة البنفسجية الغلاف، و أنت مستلقي في سيارتك منتشيا في معطفك القطني الأسود، لا يسحبك منها سوى ضجيجنا، لتعلن القصاص في حق الكثير منا في تلك الأيام الشاتية التي يؤثثها دخان متصاعد من المداخن فوق منازل القرية.
آه يا معلمي لو كنت تعلم عندما ترفع عصاك و أنت تتفرس و جهي، أن الإملاق يمزق منزلنا، و أبي يضحي بلقمة تدغدغ بطني، في سبيل كتبي المدرسية، لو كنت تعلم تمزقاتي العاطفية بين أوامرك و طلباتي لأبي، لجثوت أمامي تقبل يدي المبسوطة في استسلام منتظرة قصاص عصاك، آه لو أحسست بأمي وهي تدفئ يدي الصغيرتان، في كل صباح قبل أن تطلقني في ذاك الصقيع، الذي يكسر وجهي و يجمد يدي لتغدو كقطعة من زجاج، آه يا معلمي لو كنت قويا لتعترف، و تعدل، لتساوي بيني و بين ابنك، نعم ابنك الذي زارنا في المدرسة، ببشرة ناعمة و نظارتان، بلباس لم أحلم به في منزلنا البسيط، و تلك العناية و الاهتمام، و تلك المراقبة التي لم أعهدها منك و أنا الذي أناديك أبي الثاني، لو شعرت بتلك الأحاسيس التي عشتها في القسم مشتتا بين التمرد و الاستسلام، المجيء و الذهاب، الاقبال و الإدبار، لفكرت أن تلعن كل النواميس، و أن ترعى التلاميذ معتذرا عن الظروف القاهرة، التي جعلت الفرد في وجود يرفضه كل لبيب.
هكذا يا صاحب الهيبة نعيش، تحت تأثيرات نفسية، ننتمي إلى بلدات صغيرة تربو فيها كوابيس و معاناة مع بزوغ كل يوم جديد. نمت تلك البراعم اليوم، و أغلبها خارج الأيام التي تمنت فيها مهندسا، طبيبا، أستاذا،... تطوي الأصقاع باحثة عن حلم، قطعة خبز مقابل صبيب عرق قوي على الجبين، في محاولة للعيش، و لو كان على أنقاض تلك الأحلام، تكريسا لمنطق الحلم مقابل الخبز، الفرح مقابل القرح، المأساة مقابل السعادة، في بلدة تسعد، في موسمي اللوز و الزيتون، هي شذرات من ذاكرتنا الحية و واقعنا المعاش في زمن التقدم و محاربة الهشاشة. سارت الحياة كما شاء لها أن تسير، و بقيت أنت يا معلمي سيدا على عرش الذاكرة، تسطر حروفا أخرى في تلك المدارس نفسها، و عندما نلتقي، نقول سلاما جافا فيه ذكرى حزينة، بين القلم و الطبشور و العصا، فنبتسم قاتلين الماضي و موهمين أنفسنا أن الزمن قد تغير.
عذرا معلمي لا أدري من أين تخرج هذه الكلمات! هي كلمات متشردة من علبتي السوداء، تخرج من جرح لم يندمل بعد، و أنا على خطوة أن آخذ مكانك، ذلك المنصب نعم، و لكني وجل من أعيش الحاضر بقلب الماضي، أخاف أن أبدأ الدرس بتلك العصا، التي تعلو جدران الذاكرة، و أنا أتذكر أقسام الموت في تلك المدرسة، التي يغازلها الوادي، نعم ذلك الواد الذي كان يحول بيني و بين القسم، بيني و بين عصاك، نعم ذلك الواد الذي حرمني من تلك الحروف المشرقة و المكتوبة في ذاكرتي بقلم لا يشيخ، تلك الحروف التي كنت تنقشها فقط عندما كانت ابتسامتك تسبق الطبشور و هو يقرع حبا على السبورة، في تلك اللحظة فقط توهج قبس من النار في قلبي، أنار لي دربا بين المنزل و المدرسة، دربا علمنا كل شيء عدا كيف نغير دور المدرسة، ذاك القبس نفسه هو ما أذكره عنك و أنت تجتاز بسيارتك الحمراء دروب ذاكرتي.
معلمي هي رسالة متأخرة لقدر جيل بأكلمه، حيث أخذت على عاتقي مهمة الأعتراف باسمه، و رسم صور بأبعاد نفسية و اجتماعية لما عايشه من تناقضات و أحلام متواصلة، بناء على ذكريات رسمت لنفسها حدودا لا متناهية، فصارت كتابا مفتوح الجراح من المستحيل طيه، ما دام إبنك أفضل من أبناء جيله.