بقلم : محمد بودهان
العديد من المغاربة يؤاخذون على متظاهري الحِراك الشعبي بالريف، والمتضامنين معهم في عدة مدن مغربية، ومتظاهري الحركة الأمازيغية كذلك، غيابَ الراية الوطنية للمغرب في تظاهراتهم وتجمّعاتهم، والحضور اللافت والبارز للراية الأمازيغية والراية التاريخية لجمهورية الريف، بالنسبة لتظاهرات الريف على الخصوص.
الكثير من المغاربة يعرفون جيّدا لماذا لا يُرفع العلم الوطني في هذه التظاهرات والمسيرات، ويملكون جيّدا الجواب عن السؤال الذي طرحناه كعنوان لهذا الموضوع. لكنهم، وعن قصد وسوء نيّة، يهوّلون من غياب الراية المغربية بغرض التهويل من هذه التظاهرات، وشيطنة أصحابها بالإيحاء (والتحريض) أن غياب الراية الوطنية هو غياب للوطنية لديهم. لهذا فإن هذه المناقشة، لموضوع الراية، لا تخصّ هؤلاء من ذوي النيات السيئة، بل هي موجّهة حصرا لأولئك المغاربة، الذين قد يظنّون، عن حسن نيّة لجهلهم بحقيقة الموضوع، أن رفع غير الراية المغربية قد يعني دعوة للانفصال عن الوطن الذي تمثّله هذه الراية. ولهذا فهم غالبا ما ينعتون الراية الأمازيغية وراية الريف بالأعلام الانفصالية.
سنناقش الموضوع عبر التطرق للمحاور التالية: بين الجنسية والهوية ـ راية الريف ـ فكّ العزلة الاقتصادية لكن مع الإبقاء على العزلة التاريخية والهوياتية ـ حقيقة الانفصال ـ خرافة الانفصال ـ الأصول التاريخية للرايات الثلاث ـ أي الأعلام الثلاثة يتوفر على خاصية الانفصالية؟
حتى تكون مناقشتنا جدية وموضوعية، بعيدا عن الأفكار الجاهزة والأحكام المسبّقة، يجدر التمييز، في ما يخصّ الراية، بين مفهوم الجنسية ومفهوم الهوية. فالجنسية هي رابطة قانونية بين أفراد ودولة ينتمون إليها كمواطنين. تتجلّى إذن الجنسية وتُمارس على مستوى الانتماء المواطِن إلى الدولة. والعلم الوطني، لكل دولة، يمثّل جنسيتها ويرمز إليها. واكتساب جنسية تلك الدولة يعني اكتساب الانتماء إليها، المتمثّل في المواطنة. فالأجنبي الذي يقيم بالمغرب ليس مواطنا مغربيا، لأنه لا يحمل الجنسية المغربية. لكن إذا اكتسب هذه الجنسية، بعد توفّر أسباب ذلك الاكتساب، سيصبح مواطنا مغربيا، كامل المواطنة. فالجنسية هي عنوان الانتماء إلى دولة ما. والمغاربة كلهم يحملون الجنسية المغربية. فكلهم إذن مواطنون مغاربة.
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يحمل مناضلو الحركة الأمازيغية ومتظاهرو الحراك الشعبي بالريف الرايةَ المغربية، تعبيرا عن انتمائهم لهذه الدولة التي يحملون جنسيتها، التي هي عنوان هذا الانتماء؟
الجواب بسيط جدا، وهو أن لا أحد يُنكر عليهم هذا الانتماء أو يشكّك في جنسيتهم المغربية، حتى يرفعوا هذه الراية ليؤكّدوا بها أنهم مواطنون مغاربة، ويُشهروها في وجه من لا يعترف لهم وبهم أنهم مغاربة. ومن المناسب في هذا الصدد، قصد التوضيح، أن نستحضر حالة المرحوم أبراهام السرفاتي، الذي لم تكن الراية المغربية تفارقه أينما حل وارتحل، طيلة مدة منفاه خارج المغرب منذ أن جرّده إدريس البصري من جنسيته المغربية، وطرده خارج الوطن، مُنكرا أن يكون مغربيا وزاعما أنه برازيلي. كان يحمل آنذاك الراية المغربية دون توقّف. لماذا؟ ليقول بذلك إنه مواطن مغربي ويحمل الجنسية المغربية. مع أن السرفاتي، قبل أن يُجرّد من جنسيته المغربية، لم يكن يُشهر الراية المغربية أو يحملها حيث حل وارتحل.
هذا ما يتعلق بالجنسية. أما الهوية، والتي بفهمها سنفهم أكثر لماذا لا يرفع الأمازيغيون الراية المغربية ويرفعون غيرها من الرايات، فهي رابطة بين شعب ـ وليس أفراد كما في الجنسية ـ وأرض ـ وليس دولة كما في الجنسية ـ تشكّل الموطن الدائم والاعتيادي لهذا الشعب. هوية الشعوب تتجلّى وتُمارس إذن على مستوى الانتماء إلى الموطن/الأرض قبل الانتماء إلى الدولة.
وبما أن المغاربة جزء من شعوب شمال إفريقيا (الأمازيغيون بشمال إفريقيا شعب واحد. لكن نستعمل الجمع ـ شعوب ـ نظرا لتوزّع هذا الشعب الواحد إلى عدة دول تحتضن كل واحدة منها جزءا من الأمازيغ الذين يشكّلون شعبها، والذي هو ركن في قيام الدولة)، الموطن الدائم والاعتيادي لهذه الشعوب، التي هي شعوب معروفة أنها شعوب أمازيغية، أي أن هويتها الجماعية هوية أمازيغية، فيترتّب عن ذلك أن الهوية الجماعية للمغاربية هي هوية أمازيغية، بمضمونها الترابي ـ الأرض والموطن ـ وليس العرقي، لأنهم جزء من الشعوب الأمازيغية لشمال إفريقيا أو تامازغا، أي موطن الأمازيغ. إلا أن سياسة التعريب، السياسي والعرقي والهوياتي والإيديلويجي، التي انطلقت منذ 1912 وتسارعت بعد 1956، والتي اتخذت شكل تحويل جنسي (جنس = قومية) عام للمغاربة، جعلت من المغرب دولة عربية، ومن شعبه شعبا عربيا، وهو ما تلخّصه عبارة "المغرب العربي". فرفع الراية الأمازيغية من طرف أولئك المغاربة الذين لا زالوا واعين بهويتهم الأمازيغية، هو تعبير عن رفضهم للتحويل الجنسي للمغرب، ولتزوير هويته الأمازيغية الشمال إفريقية بتغييرها إلى هوية عربية منتَحلة. فكما أن هؤلاء، كما سبق شرح ذلك، لا يرفعون العلم الوطني لأن لا أحد يشكّك في جنسيتهم المغربية وانتمائهم لدولة المغرب، فكذلك هم يُشهرون الراية الأمازيغية ليقولوا لمن يشكّك في أمازيغية المغرب إنهم أمازيغيون، وإن المغرب أمازيغي هي هويته الجماعية ـ وليس الفردية. هذه هي دلالة رفع العلم الأمازيغي، والتي لا تختلف عن دلالة رفع المرحوم السرفاتي للعلم المغربي بعد أن جُرّد من جنسيته المغربية، ليقول للعالم إنه مغربي وليس برازيليا. فلو أن الدولة المغربية تُقرّ أن المغرب بلد أمازيغي وأن شعبه أمازيغي ودولته أمازيغية، لما كانت هناك حاجة، ليس لرفع العلم الأمازيغي، بل لوجود هذا العلم أصلا. ولهذا لا نجد مثلا راية خاصة بالعروبة قد يحملها سعوديون أو إماراتيون أو كويتيون، لماذا؟ لأن لا أحد يشكّك في عروبة السعوديين أو الإماراتيين أو الكويتيين.
أما القول بأن رفع العلم الأمازيغي هو دعوة إلى الانفصال فيها تهديد للوحدة الوطنية، فهذا منتهى الغباء والجهل. لماذا؟ لأن إذا كانت هناك حقا دعوة إلى الانفصال، فمن سينفصل عمّن؟ هل الريف الأمازيغي سينفصل عن دكّالة الأمازيغية؟ هل هذه ستنفصل عن فيكيك الأمازيغية؟ هل هذه ستنفصل عن أكادير الأمازيغية؟ هل هذه ستنفصل عن الدار البيضاء الأمازيغية؟ هل هذه ستنفصل عن طنجة الأمازيغية؟ هل هذه ستنفصل عن مراكش الأمازيغية؟ هل هذه ستنفصل عن اسمارة الأمازيغية... فإذا كان المغرب أمازيغيا، فعمّن سينفصل شعبه الأمازيغي؟
من جهة أخرى، الراية الأمازيغية هي رمز الهوية الأمازيغية، ليس للمغرب فقط، بل لكل بلدان وشعوب شمال إفريقيا، كما سبقت الإشارة. ولهذا فهي حاضرة في الجزائر وتونس وليبيا ومصر (منطقة سيوا) وموريتانيا ومالي والنيجر وجزر الكناري. وعليه فهي ليست راية انفصال، بل هي راية جامعة وموحّدة لجميع بلدان وشعوب شمال إفريقيا. ومن الغباء الكبير والجهل الكثير، كما قلت، نعتها، مثلما يفعل الكثيرون، براية الانفصال. وإذا كان الانفصال هو استقلال الأجزاء عن الكل لتشكيل كيانات قائمة بذاتها، فستكون الرايات الوطنية، مثل رايات المغرب والجزائر وتونس وليبيا، هي التي تعبّر، كما يدل على ذلك عددها، على الانفصال، لأن كل واحدة منها ترمز إلى حدود تفصل بين دول شمال إفريقيا الأمازيغية. أما الراية الأمازيغية، وكما يدل على ذلك كونها راية واحدة وليست رايات متعددة، فتتخطّى هذه الحدود لتشكّل راية واحدة لجميع هذه البلدان. إنها إذن راية وصال ووحدة، وليست راية انفصال وفُرقة.
إذا كانت هذه الخاصية التوحيدية الجامعة للراية الأمازيغية مفهومة وواضحة، فالأمر ليس كذلك بالنسبة لراية الريف المعروفة بنجمتها السداسية، والتي كانت هي العلم الرسمي لجمهورية الريف (1921 ـ 1926). فبما أنها كانت راية لجمهورية الريف، التي كانت تحكم فقط جزءا من المغرب، فمن السهل جدا تأويل رفعها من دون الراية الوطنية على أنه دعوة إلى إقامة كيان سياسي مستقل بالريف على غرار جمهورية الريف التي ترمز إليها وتذكّر بها تلك الراية.
لكن هل من الضروري أن يعني رفع راية الريف دعوة إلى الانفصال وليس شيئا آخر غير ذلك؟ لماذا لا يعني فقط التذكيرَ بالمقاومة الريفية ضد المستعمر التي خاضها الريفيون تحت هذه الراية؟ لماذا لا يعني فقط التذكيرَ بأمجاد وأبطال وتاريخ الريف؟ لماذا لا يعني فقط التذكيرَ بقائد هذه المقاومة ومؤسس جمهورية الريف محمد بن عبد الكريم الخطّابي (مولاي موحاند)؟
أما لماذا سيكون رفع راية الريف احتفاء بتاريخ هذا الريف وماضيه وأمجاده ورجاله، وليس تعبيرا عن إرادة الانفصال، فذلك لأن هذا التاريخ، وبسبب ارتباطه بجمهورية الريف، لا زال مُحاصَرا يعاني من الإقصاء والإخفاء، ومن التأويلات المشوِّهة والمغرضة. والثابت أن هذا الحصار لتاريخ محمد عبد الكريم الخطّابي، صاحبَه، قرابة نصف قرن، حصارٌ تنموي أبقى المنطقة في عزلة اقتصادية قاتلة، دون الكلام عن الحملة العسكرية الإجرامية التي استهدفتهم في 1958 ـ 59. كل هذا يُحسّ به الريفيون على أنه انتقام من إقدامهم على إقامة جمهورية الريف ليواجهوا بها المستعمر، الذي كان المخزن قد سلّم له الوطن، وبكامل الرضا والقبول.
يجب الاعتراف أنه مع حكم الملك محمد السادس تغيّرت الكثير من الأمور في علاقة الدولة بالريف. فكان هناك اهتمام بالمنطقة تجلّى في بعض المنجزات تخص الاستثمار والتنمية الاقتصادية وفكّ العزلة عن الريف. وقد اتخذ هذا الاهتمام، كاعتراف ضمني أن الريف كان موضوع تهميش لأسباب سياسية، طابعا تصالحيا تلخّصه عبارة "المصالحة مع الريف". لكن الخطأ هو أن هذا الاهتمام، الذي أوْلته الدولة لمنطقة الريف منذ بداية الألفية الثالثة، انصبّ على الجوانب المادية ذات الطبيعة الاقتصادية، كأن الإنسان لا يعيش إلا بالخبز وحده، وأهمل ما يرتبط بالهوية والتاريخ واللغة والذاكرة الجماعية، وهي الجوانب التي لم يُعترف بها ولم يُردّ لها الاعتبار ولم تعط لها الأهمية التي تستحقها ضمن مسلسل المصالحة. فرفع علم الريف ـ والعلم الأمازيغي ـ هو ردّ على عدم الاعتراف بتاريخ الريف وذاكرته الجماعية وهويته ولغته. فإشهار هذا العلم هو إشهار لهذا التاريخ ولهذه الهوية ولهذه الذاكرة الجماعية، وتحدّ للحصار المضروب على هذا التاريخ . فلو كانت هناك مصالحة حقيقية مع تاريخ الريف وكفاحه ضد الاستعمار، وذلك بإدماج هذا التاريخ في المقررات الدراسية بالشكل المطلوب واللائق، وبترميم أجدير، مقر حكومة جمهورية الريف، وجعله متحفا لهذا التاريخ، بدل تركه فريسة للخراب اليباب لينعق فيه البوم والغراب كنوع من التشفّي ممن ترمز إليهم هذه البناية، وبنقل جثمان مولاي موحاند من مصر ليعاد دفنه في عاصمة جمهوريته التي هي أجدير، وبالاحتفاء بأبطال هذا التاريخ ورجالاته، وبإقرار 21 يوليوز (ذكرى معركة أنوال) يوم عيد وطني...، لما كانت هناك حاجة لرفع علم جمهورية الريف، لأن مع انتفاء الأسباب تنفي نتائجها. فالمصالحة الحقيقية مع الريف لا تتحقق فقط بفك العزلة عن المنطقة بإنشاء الطرق والمطارات، وتوفير شروط محفزة للاستثمار وخلق مشاريع اقتصادية تخلق الثروة وفرص الشغل، بل تتحقق هذه المصالحة أولا بفك العزلة عن تاريخ الريف ورفع الحصار عنه حتى يكون ـ كما كان ينبغي أن يكون ـ تاريخا للمغرب ولكل المغاربة، يفتخرون ويعتزّزن به، بدل فصله عنهم حتى لا يعرفوا حقيقته، ويتعاملوا معه كتاريخ أجنبي وغير وطني، وهو ما جعله يبقى تاريخا خاصا بالريفيين وحدهم، يعبّرون عنه ويفتخرون به عبر رفع راية جمهورية الريف. فإذا كان هناك من "انفصال" تدلّ عليه هذه الراية، فهو هذا "الفصل" والإقصاء الممارسان على هذا التاريخ، وهوية ولغة أصحابه، لأسباب سياسية وإيديولوجية. وهذا هو "الانفصال" الحقيقي، الذي يجد مصدره، ليس عند الريفيين، بل عند التعريبيين المتحوّلين، المتوجسين من كل ما هو أمازيغي.
الغريب أن الكثير من المثقفين والمسؤولين السياسيين المغاربة يربطون الريف بالانفصال، ولا يتورّعون عن إلصاق هذه التهمة بالريفيين كما لو كانت حقيقة ثابتة لا جدال فيها ولا نقاش حولها. وأتذكّر أن الدكتور الأستاذ المرحوم محمد جسّوس ـ وهو من هو بقامته العلمية الشامخة ـ قال أمام مئات الحاضرين في قاعة سينما الريف (لم تعد موجودة اليوم) بالناظور، في ردّه على بعض المتدخلين أثناء المناقشة بعد أن انتهى من إلقاء محاضرة حول التعدد الثقافي، قال: نعم نعرف أنكم تريدون جمهورية ريفية. فإذا كان مثقفون وسياسيون (كان الدكتور جسّوس عضوا في المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي) كبار، من طينة المرحوم محمد جسوس، ينظرون هذه النظرة "الانفصالية" إلى الريف، فلن نلوم العامّة من الشعب إذا كانوا يتبنّون نفس النظرة ويوجّهون نفس التهمة إلى الريفيين. هذه التهمة بالانفصال، لتكرارها وتواتر إشاعتها والترويج لها، أصبحت معطى حاضرا بقوة في المتخيّل السياسي بالمغرب، مع ما يصاحب هذا الحضور من تخوين وشيطنة وتحريض واستعداء على أهل الريف. وهو ما ساهم في خلق انفصال "متخيّل" لأنه نتيجة لمتخيّل سياسي. ولأن الريفيين يتحدّون هذه التهمة، وما يرتبط بها من تحريض وتأليب وافتراء، برفع راياتهم الأمازيغية والريفية، سيُستعمل رفع تلك الرايات من طرف أصحاب التهمة على أنه دليل على صحة التهمة. وهكذا يخلق انفصال "متخيّل" (ناتج عن المتخيّل السياسي) انفصالا حقيقيا، تظهر "حقيقته" في مجموع الإجراءات التي تتخذها الدولة لمواجهة هذا "الانفصال"، كما رأينا في التهمة التي وجهتها الأغلبية الحكومة لحراك الريف، وهي نفس التهمة التي بنت عليها النيابة العامة صكّ الاتهام الذي قاد إلى اعتقال نشطاء الحراك. هذا شيء معروف في العلاقات الاجتماعية والعلاقات الدولية: فتصورك للآخر، رغم أن ذلك التصوّر مخالف للحقيقة، إلا أنه يصبح حقيقيا من خلال سلوكك العملي لمواجهة ذلك الآخر بناء على تصورك الخاطئ له. وسترى في رد فعله الدفاعي دليلا على صحة تصورك. وكذلك الدولة التي تعتقد، بناء على تقارير خاطئة، أن جارتها تتربص للهجوم على أراضيها، تقوم بحشد الجيوش على الحدود تحسّبا لهذا الهجوم، وهو ما تردّ عليه الدولة الجارة بالمثل فتحشد هي كذلك الجيوش لحماية حدودها، وقد تبدأ بالهجوم تطبيقا لمبدأ أن أفضل دفاع هو الهجوم. وهو ما سيعطي للدولة الأخرى دليلا على أنها كانت على صواب عندما اعتقدت أن جارتها تريد سوءا بها. وهكذا يخلق ما كان مجرد "متخيّل" (اعتقاد خاطئ) واقعا حقيقيا من خلال ردود فعل حقيقية وليست متخيّلة. نفس الشيء في ما يخص مسألة الاعتقاد أن الريفيين انفصاليون: فلأن الدولة تعتقد، كما ترسّخ ذلك في متخيّلها السياسي، أن الريفيين انفصاليون، فهي تعاقبهم على ذلك بتهميش منطقتهم وتجاهل هويتهم وتاريخهم. ولأنهم يشعرون أن هويتهم وتاريخهم موضوع حظر وإقصاء، فلم يبق لهم، كرد فعل دفاعي، إلا التعلّق بهذه الهوية وهذا التاريخ، وذلك برفع العلم الأمازيغي وعلم الريف، للتعبير عن اعتزازهم بهذه الهوية وافتخارهم بهذا التاريخ، اللذيْن يعمل متّهموهم بالانفصال على إقصائهما ومحاربتهما. وسيرى هؤلاء المتّهمون للريفيين بالانفصال في تعلّق هؤلاء بهويتهم وتاريخهم، الذي يعبّرون عنه برفع العلم الأمازيغي وعلم الريف، دليلا آخر على صحة الاتهام وعلى وجود الانفصال. هكذا يتحوّل الريفيون إلى انفصاليين، ليس لأنهم كذلك في الواقع، بل لأن المتخيّل السياسي المغربي هو الذي يجعل منهم انفصاليين.
أما الانفصال الحقيقي، وليس الوهمي الذي يخلقه المتخيّل السياسي، والمتمثل في الدعوة إلى إقامة كيان سياسي بالريف مستقل عن الوطن الأم، فهو خرافة غبية لا يصدّقها إلا الأغبياء. فمن هو هذا الريفي الذي سيختار التخلّي عن المغرب، بطرقه السيارة، وجامعاته الحديثة، ومستشفياته العصرية، وثرواته البرية والبحرية، وفلاحته المتطورة...، والذي بناه الريفيون، بجانب جميع المغاربة، بعملهم وضرائبهم ودفاعهم كجنود عن صحرائه، لينعزل في جبال جرداء لا تنتج إلا نبتة الكيف؟ نعم قد يروّج لهذا الانفصال ويشجّع عليه من لا يكنّ ودّا للريفيين، فيريد أن يتخلّص منهم ويحرمهم من خيرات المغرب ليستأثر بها وحده.
نعم هناك مجموعة من الريفيين، وهم في غالبيتهم نشطاء في الحركة الأمازيغية، يطالبون بالحكم الذاتي لمنطقة الريف، على غرار الأنظمة الفيديرالية. لكن لمجرد أن هذا المطلب صادر عن مغاربة ريفيين، هم في المتخيّل السياسي انفصاليون، فهو إذن مطلب انفصالي مع أن الحكم الذاتي، ضمن دولة فيديرالية، يمثّل قمّة الديموقراطية التشاركية الحقيقية. وقد أعلن المغرب نفسه أنه عازم على تمتيع أقاليم الصحراء بنظام الحكم الذاتي. لكن الدستور تجنّب استعمال عبارة الحكم الذاتي، والتفّ على الموضوع بالحديث عن "الجهوية المتقدمة". وفي ما يخص الريف، من الواضح أن التقسيم الجهوي، المعتمد لتطبيق هذه "الجهوية المتقدمة"، روعي فيه هدف تفكيك هذا الريف كجهة ذات وحدة بشرية وجغرافية وتاريخية وثقافية وهوياتية ولغوية. وهذا ما كان وراء فصل الناظور عن الحسيمة. وهو قرار مجحف في حق الريف، ويتناقض تماما مع أسس ومقوّمات الجهوية، وخصوصا إذا كانت هذه الجهوية "متقدمة"، كما يتغنّى بذلك المسؤولون.
لنعود إلى موضوع الرايات ونفحص أصولها التاريخية، وما إذا كانت لذلك دلالة وطنية أو انفصالية.
في ما يخص الراية الأمازيغية، ففضلا على أنها راية وحدة تجمع كل دول شمال إفريقيا التي تشترك في نفس الهوية الأمازيغية الشمال إفريقية، كما سبق شرح ذلك، فهي من إبداع أمازيغيين من الجزائر والمغرب. فهي إذن صنع محلي شمال إفريقي، تعبّر عن الهوية الجماعية لشعوب هذه المنطقة. ليس لها إذن أية علاقة بما هو أجنبي خارج شمال إفريقيا، نشأة ورسما، حتى يمكن القول إنها راية الانفصال أو العِمالة أو الاستعمار أو الولاء للأجنبي.
أما علم جمهورية الريف، فهو ـ رغم ما يقال عنه جهلا إنه علم انفصالي لأنه يخص جزءا من المغرب، وهو الريف، ولم يكن يرمز إلى كل الوطن ـ علم مغربي أصيل، سبق ظهورُه واستعمالُه ظهورَ جمهورية الريف. ذلك أن نجمته السداسية التي تميّزه، ليست من ابتكار جمهورية الريف في بداية القرن العشرين، بل كانت معروفة ومستعملة في المغرب، منذ القرن السابع عشر، كرمز مميّز لراية دولة المخزن. ولأن هذه النجمة كانت، لانتشارها الواسع بالمغرب، تعتبر منتوجا محليا ومغربيا خالصا، فقد كانت لا تخلو منها مصنوعات الحلي والزينة، ورسوم الوشم، وزخارف الزرابي، والعديد من المواد النقشية والخزفية... ولهذا نجدها مرسومة على النقود المغربية حتى بعد دخول المغرب تحت الحماية الفرنسية، كما ظلت تتوسط العلم المغربي لدولة المخزن إلى تاريخ 17 نوفمبر 1915. والمعجم الفرنسي "لاروس الصغير الجديد المصوّر" (Nouveau petit Larousse illustré) لـ1924 يتضمن صورة العلم المغربي بلونه الأحمر ونجمته السداسية في الوسط. إذن ما فعله محمد بن عبد الكريم الخطّابي، باستعماله لعلم خاص بجمهورية الريف يحمل هذه النجمة السداسية، هو استمرار لاستعمال نفس الرمز الذي كان يُعرف به العلم المغربي، وحفاظ منه على تقليد مغربي أصيل.
أمّا علَمنا الوطني الحالي، بنجمته الخماسية، فقد كان، قبل نوفمبر 1915، شيئا غريبا عن المغرب والمغاربة وتاريخهم، لم يسبق لهم أن عرفوا ولا استعملوا راية تتوسطها نجمة بخمسة فروع. ولهذا فرغم أن هذا العلم الجديد (ظهر في 1915) هو اليوم علمنا الوطني، وهو ما يوجب علينا الاعتزاز به وحمايته والدفاع عنه، إلا أن الحقيقة هي أنه منتوج استعماري، اختاره لنا وفرضه علينا المارشال "ليوطي"، الذي أصدر ظهير 17 نوفمبر 1915 باسم السلطان مولاي يوسف، قرّر فيه أن يحمل العلم المغربي نجمة خماسية تميّزه، بدل النجمة السداسية التي كانت معروفة ومستعملة في العلم المغربي قبل هذا التاريخ. أما المبرّر الذي جاء في الظهير لتسويغ هذا التغيير للعلم المغربي، فهو الزعم أن «راية أسلافنا المقدّسين تشبه بعض الرايات وخصوصا المستعملة في الإشارات البحرية». طبعا هذه ذريعة واهية وغير مقنعة. لماذا إذن أقدم "ليوطي" على إلغاء النجمة السداسية وفرض محلها النجمة الخماسية؟ القليل يعرفون ـ والكثير يجهلون ـ أن "ليوطي" كان معاديا للسامية، أي معاديا لليهود (Antisémite)، متأثرا بذلك بثقافة عصره وبلده حيث كان العداء لليهود، في بداية القرن العشرين، إيديولوجية واسعة الانتشار بكل أوروبا، في الأوساط الشعبية والسياسية والثقافية، وهو ما مهّد لمحرقة اليهود على يد النازية كقمّة لهذا العداء للسامية. ولأن "ليوطي" كان يعرف أن النجمة السداسية رمز مقدس لدى اليهود، ولأنه يكرههم ويعاديهم بصفتهم يهودا، فقد استعمل سلطته كحاكم للمغرب ليزيح هذا الرمز، الذي يكرهه لأنه يكره اليهود الذين يحيل عليهم هذا الرمز. هذا هو الدافع الحقيقي وراء قرار "ليوطي" تغيير النجمة السداسية العريقة في المغرب بالخماسية، لأسباب هي عنصرية في الحقيقة، ترتبط بالعداء لليهود.
نعم كان بإمكان "ليوطي" أن يعلّل هذا القرار، ليس بالمبرر البليد، الذي هو التشابه بين راية المغرب وراية الإشارات البحرية، بل بالتشابه بين رمز الراية المغربية ورمز اليهودية. لكنه لم يفعل خوفا من انكشاف موقفه العنصري تجاه اليهود. وأسوأ تبرير يُعتمد عليه لإعطاء المشروعية للنجمة الخماسية التي أدخلها "ليوطي"، ذلك القول الشائع بأنها تمثّل، بفروعها الخمسة، الإسلام بأركانه الخمسة. هذا أسوأ تبرير لأنه يعني أن المغاربة لم يفهموا أو لم يعرفوا الإسلام حتى جاء "ليوطي" فعرّفهم بهذا الدين، من خلال وضع علامة ترمز إليه على علمهم الوطني كدليل على أنهم مسلمون. وهو ما يعني أيضا، نتيجة لذلك، أنهم لم يكونوا مسلمين عندما كانت رايتهم تحمل نجمة بستة فروع. ولهذا فلو كان هاجس "ليوطي" هو استعمال علامة ترمز إلى الإسلام في العلم المغربي، لاستعمل، ليس النجمة الخماسية، بل علامة الهلال، الذي هو رمز الإسلام كما هو معلوم. وهو الرمز الحاضر في علم جمهورية الريف، والذي قصد به محمد بن عبد الكريم الخطّابي التاكيد أن جمهورية الريف دولة إسلامية.
نلاحظ إذن كيف أن علمنا الوطني الحالي، الذي يتحتّم علينا احترامه والاعتزاز به، ذو أصل فرنسي استعماري أجنبي، فرضه علينا المحتل "ليوطي".
بناء على المعطيات التاريخية للأعلام الثلاثة، ما هو العلم الانفصالي وغير الوطني، هل العلم الأمازيغي أم الريفي ـ اللذان يُنعتان بالانفصاليين عند الجهلة بتاريخ الأعلام الثلاثة ـ أم المغربي؟ إذا عرفنا أن الأعلام ترمز إلى الدول وأوطانها كأقطار وبلدان وليس كأعراق وأنساب، فلماذا يكون العلم الأمازيغي انفصاليا وهو علم الهوية الأمازيغية لشمال إفريقيا كمنطقة وموطن ينتمي إليه المغرب؟ ولماذا يكون علم الريف انفصاليا، وهو، بنجمته السداسية، علم مغربي تاريخي أصيل، كما سبق أن شرحنا؟ أما وأنه كان علما لجمهورية فصلت الريف عن باقي المغرب، ومن هنا فهو علم انفصالي، فكلام مردود. لماذا؟ لأن باقي المغرب، من غير الريف، كان تحت الاحتلال الفرنسي، ولهذا أقام ابن عبد الكريم الخطّابي جمهورية في الجزء المحرّر من المغرب، وهو الريف. سيصحّ الحديث عن الانفصال لو أن المغرب كان بلدا حرا ومستقلا فقام الخطّابي بفصل الريف عن الوطن الأم، وأقام به جمهورية مستقلة. أما وأنه اختار علما آخر غير العلم الوطني، مما قد يدل على إرادة الانفصال، فهو كلام مردود أيضا. لماذا؟ بالإضافة إلى ما قلناه من أن علم جمهورية الريف هو، بنجمته السداسية، علم مغربي أصيل، فإنه لم يكن من المعقول ولا المقبول أن ابن عبد الكريم الخطّابي، كما شرح ذلك بتفصيل الدكتور علي الإدريسي في أحد حوراته المنشورة بالجريدة الإلكترونية "لكم2" بتاريخ فاتح ماي 2017 (http://lakome2.com/mobile/politique/26359.html)، سيستعمل العلم الجديد لعدوه "ليوطي". فقد كان في حرب مع هذا الأخير، فكيف يعقل أن يتبنّى رايته ويحاربه باسم هذه الراية؟ ويجدر التذكير أن هذه الراية لم تكن معروفة بعدُ عند كل المغاربة، الذين كانوا متعوّدين على الراية ذات النجمة السداسية، والتي احتفظ عليها الخطّابي في رايته لجمهورية الريف.
إذن ما هو العلم الانفصالي وغير الوطني، من بين الأعلام الثلاثة، لتوفره على خاصية الانفصالية واللاوطنية؟ إنه العلم الوطني الحالي باعتباره، أولا، دخيلا على الوطن ومنفصلا عنه، لأنه بلا جذور ولا أصول تاريخية في هذا الوطن، ولأنه، ثانيا، منتوج استعماري صنعه وفرضه الاحتلال الفرنسي. وأكرر أن هذا لا ينفي أنه أصبح اليوم علمنا الوطني الذي علينا احترامه والاعتزاز به وحمايته والدفاع.
ولأن هذا العلم ذو أصول استعمارية أجنبية، فلا نفهم لماذا لم تبادر دولة الاستقلال إلى إلغائه وتغييره بعلم آخر، إما بالعوذة إلى النجمة السداسية الأصلية للراية المغربية قبل الحماية، أو بابتكار رمز آخر جديد للعلم الوطني. حقيقة ليس من الضروري إلغاء كل ما خلّفه لنا الاستعمار، وإلا كنا سنهدّم المدارس ونخرّب السكك الحديدية، ونلغي القانون الجنائي وقانون الالتزامات والعقود، ونغلق المستشفيات ومختلف المؤسسات والمرافق العمومية التي أنشأها الاستعمار الفرنسي. لكن في ما يتعلّق بالعلم الوطني، فالأمر مختلف. أولا هو ليس شيئا إذا قمنا بتغييره بما هو وطني أصلي ستتوقّف الفائدة منه، أو سيكّلفنا ذلك وقتا ومالا، مثل المستشفيات أو المدارس أو الأنظمة الإدارية... وهو، ثانيا، يعبّر عن السيادة الوطنية التي استردّها المغرب في 1956. ولهذا فقد كان على الدولة أن لا تستمر في استعمال علم كان يعبّر عن فقدانها لسيادتها واستقلالها لأنه من وضع من أفقدها هذه السيادة وهذا الاستقلال، وأن تعتمد علما جديدا مختلفا كتعبير عن استعادة سيادتها واستقلالها. لقد سارعت دولة الاستقلال إلى إلغاء ظهير 16 ماي 1930 (الظهير البربري) الخاص بالأعراف الأمازيغية، التي هي أعراف مغربية أصيلة، وحظر تدريس الأمازيغية، التي هي لغة مغربية أصيلة كذلك. لكنها أبقت على علم "ليوطي"، الذي هو علم دخيل وأجنبي واستعماري. وهذا يبيّن أن ما حاربته دولة الاستقلال ليس هو الإرث الاستعماري، بل فقط الجانب من هذا الإرث المرتبط بالأمازيغية.
لهذا عندما نحلّل مفاهيم "الوطنية" و"الوطني" ، و"الانفصالي" و"التبعية للأجنبي"، و"تهديد الوحدة الوطنية"، وخصوصا عندما نربطها بالرايات التي ترفع في التظاهرات، فقد نقف على حقيقة أخرى مخالفة ينقلب فيها السحر على الساحر.
لكن هل من الضروري أن يعني رفع راية الريف دعوة إلى الانفصال وليس شيئا آخر غير ذلك؟ لماذا لا يعني فقط التذكيرَ بالمقاومة الريفية ضد المستعمر التي خاضها الريفيون تحت هذه الراية؟ لماذا لا يعني فقط التذكيرَ بأمجاد وأبطال وتاريخ الريف؟ لماذا لا يعني فقط التذكيرَ بقائد هذه المقاومة ومؤسس جمهورية الريف محمد بن عبد الكريم الخطّابي (مولاي موحاند)؟
أما لماذا سيكون رفع راية الريف احتفاء بتاريخ هذا الريف وماضيه وأمجاده ورجاله، وليس تعبيرا عن إرادة الانفصال، فذلك لأن هذا التاريخ، وبسبب ارتباطه بجمهورية الريف، لا زال مُحاصَرا يعاني من الإقصاء والإخفاء، ومن التأويلات المشوِّهة والمغرضة. والثابت أن هذا الحصار لتاريخ محمد عبد الكريم الخطّابي، صاحبَه، قرابة نصف قرن، حصارٌ تنموي أبقى المنطقة في عزلة اقتصادية قاتلة، دون الكلام عن الحملة العسكرية الإجرامية التي استهدفتهم في 1958 ـ 59. كل هذا يُحسّ به الريفيون على أنه انتقام من إقدامهم على إقامة جمهورية الريف ليواجهوا بها المستعمر، الذي كان المخزن قد سلّم له الوطن، وبكامل الرضا والقبول.
يجب الاعتراف أنه مع حكم الملك محمد السادس تغيّرت الكثير من الأمور في علاقة الدولة بالريف. فكان هناك اهتمام بالمنطقة تجلّى في بعض المنجزات تخص الاستثمار والتنمية الاقتصادية وفكّ العزلة عن الريف. وقد اتخذ هذا الاهتمام، كاعتراف ضمني أن الريف كان موضوع تهميش لأسباب سياسية، طابعا تصالحيا تلخّصه عبارة "المصالحة مع الريف". لكن الخطأ هو أن هذا الاهتمام، الذي أوْلته الدولة لمنطقة الريف منذ بداية الألفية الثالثة، انصبّ على الجوانب المادية ذات الطبيعة الاقتصادية، كأن الإنسان لا يعيش إلا بالخبز وحده، وأهمل ما يرتبط بالهوية والتاريخ واللغة والذاكرة الجماعية، وهي الجوانب التي لم يُعترف بها ولم يُردّ لها الاعتبار ولم تعط لها الأهمية التي تستحقها ضمن مسلسل المصالحة. فرفع علم الريف ـ والعلم الأمازيغي ـ هو ردّ على عدم الاعتراف بتاريخ الريف وذاكرته الجماعية وهويته ولغته. فإشهار هذا العلم هو إشهار لهذا التاريخ ولهذه الهوية ولهذه الذاكرة الجماعية، وتحدّ للحصار المضروب على هذا التاريخ . فلو كانت هناك مصالحة حقيقية مع تاريخ الريف وكفاحه ضد الاستعمار، وذلك بإدماج هذا التاريخ في المقررات الدراسية بالشكل المطلوب واللائق، وبترميم أجدير، مقر حكومة جمهورية الريف، وجعله متحفا لهذا التاريخ، بدل تركه فريسة للخراب اليباب لينعق فيه البوم والغراب كنوع من التشفّي ممن ترمز إليهم هذه البناية، وبنقل جثمان مولاي موحاند من مصر ليعاد دفنه في عاصمة جمهوريته التي هي أجدير، وبالاحتفاء بأبطال هذا التاريخ ورجالاته، وبإقرار 21 يوليوز (ذكرى معركة أنوال) يوم عيد وطني...، لما كانت هناك حاجة لرفع علم جمهورية الريف، لأن مع انتفاء الأسباب تنفي نتائجها. فالمصالحة الحقيقية مع الريف لا تتحقق فقط بفك العزلة عن المنطقة بإنشاء الطرق والمطارات، وتوفير شروط محفزة للاستثمار وخلق مشاريع اقتصادية تخلق الثروة وفرص الشغل، بل تتحقق هذه المصالحة أولا بفك العزلة عن تاريخ الريف ورفع الحصار عنه حتى يكون ـ كما كان ينبغي أن يكون ـ تاريخا للمغرب ولكل المغاربة، يفتخرون ويعتزّزن به، بدل فصله عنهم حتى لا يعرفوا حقيقته، ويتعاملوا معه كتاريخ أجنبي وغير وطني، وهو ما جعله يبقى تاريخا خاصا بالريفيين وحدهم، يعبّرون عنه ويفتخرون به عبر رفع راية جمهورية الريف. فإذا كان هناك من "انفصال" تدلّ عليه هذه الراية، فهو هذا "الفصل" والإقصاء الممارسان على هذا التاريخ، وهوية ولغة أصحابه، لأسباب سياسية وإيديولوجية. وهذا هو "الانفصال" الحقيقي، الذي يجد مصدره، ليس عند الريفيين، بل عند التعريبيين المتحوّلين، المتوجسين من كل ما هو أمازيغي.
الغريب أن الكثير من المثقفين والمسؤولين السياسيين المغاربة يربطون الريف بالانفصال، ولا يتورّعون عن إلصاق هذه التهمة بالريفيين كما لو كانت حقيقة ثابتة لا جدال فيها ولا نقاش حولها. وأتذكّر أن الدكتور الأستاذ المرحوم محمد جسّوس ـ وهو من هو بقامته العلمية الشامخة ـ قال أمام مئات الحاضرين في قاعة سينما الريف (لم تعد موجودة اليوم) بالناظور، في ردّه على بعض المتدخلين أثناء المناقشة بعد أن انتهى من إلقاء محاضرة حول التعدد الثقافي، قال: نعم نعرف أنكم تريدون جمهورية ريفية. فإذا كان مثقفون وسياسيون (كان الدكتور جسّوس عضوا في المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي) كبار، من طينة المرحوم محمد جسوس، ينظرون هذه النظرة "الانفصالية" إلى الريف، فلن نلوم العامّة من الشعب إذا كانوا يتبنّون نفس النظرة ويوجّهون نفس التهمة إلى الريفيين. هذه التهمة بالانفصال، لتكرارها وتواتر إشاعتها والترويج لها، أصبحت معطى حاضرا بقوة في المتخيّل السياسي بالمغرب، مع ما يصاحب هذا الحضور من تخوين وشيطنة وتحريض واستعداء على أهل الريف. وهو ما ساهم في خلق انفصال "متخيّل" لأنه نتيجة لمتخيّل سياسي. ولأن الريفيين يتحدّون هذه التهمة، وما يرتبط بها من تحريض وتأليب وافتراء، برفع راياتهم الأمازيغية والريفية، سيُستعمل رفع تلك الرايات من طرف أصحاب التهمة على أنه دليل على صحة التهمة. وهكذا يخلق انفصال "متخيّل" (ناتج عن المتخيّل السياسي) انفصالا حقيقيا، تظهر "حقيقته" في مجموع الإجراءات التي تتخذها الدولة لمواجهة هذا "الانفصال"، كما رأينا في التهمة التي وجهتها الأغلبية الحكومة لحراك الريف، وهي نفس التهمة التي بنت عليها النيابة العامة صكّ الاتهام الذي قاد إلى اعتقال نشطاء الحراك. هذا شيء معروف في العلاقات الاجتماعية والعلاقات الدولية: فتصورك للآخر، رغم أن ذلك التصوّر مخالف للحقيقة، إلا أنه يصبح حقيقيا من خلال سلوكك العملي لمواجهة ذلك الآخر بناء على تصورك الخاطئ له. وسترى في رد فعله الدفاعي دليلا على صحة تصورك. وكذلك الدولة التي تعتقد، بناء على تقارير خاطئة، أن جارتها تتربص للهجوم على أراضيها، تقوم بحشد الجيوش على الحدود تحسّبا لهذا الهجوم، وهو ما تردّ عليه الدولة الجارة بالمثل فتحشد هي كذلك الجيوش لحماية حدودها، وقد تبدأ بالهجوم تطبيقا لمبدأ أن أفضل دفاع هو الهجوم. وهو ما سيعطي للدولة الأخرى دليلا على أنها كانت على صواب عندما اعتقدت أن جارتها تريد سوءا بها. وهكذا يخلق ما كان مجرد "متخيّل" (اعتقاد خاطئ) واقعا حقيقيا من خلال ردود فعل حقيقية وليست متخيّلة. نفس الشيء في ما يخص مسألة الاعتقاد أن الريفيين انفصاليون: فلأن الدولة تعتقد، كما ترسّخ ذلك في متخيّلها السياسي، أن الريفيين انفصاليون، فهي تعاقبهم على ذلك بتهميش منطقتهم وتجاهل هويتهم وتاريخهم. ولأنهم يشعرون أن هويتهم وتاريخهم موضوع حظر وإقصاء، فلم يبق لهم، كرد فعل دفاعي، إلا التعلّق بهذه الهوية وهذا التاريخ، وذلك برفع العلم الأمازيغي وعلم الريف، للتعبير عن اعتزازهم بهذه الهوية وافتخارهم بهذا التاريخ، اللذيْن يعمل متّهموهم بالانفصال على إقصائهما ومحاربتهما. وسيرى هؤلاء المتّهمون للريفيين بالانفصال في تعلّق هؤلاء بهويتهم وتاريخهم، الذي يعبّرون عنه برفع العلم الأمازيغي وعلم الريف، دليلا آخر على صحة الاتهام وعلى وجود الانفصال. هكذا يتحوّل الريفيون إلى انفصاليين، ليس لأنهم كذلك في الواقع، بل لأن المتخيّل السياسي المغربي هو الذي يجعل منهم انفصاليين.
أما الانفصال الحقيقي، وليس الوهمي الذي يخلقه المتخيّل السياسي، والمتمثل في الدعوة إلى إقامة كيان سياسي بالريف مستقل عن الوطن الأم، فهو خرافة غبية لا يصدّقها إلا الأغبياء. فمن هو هذا الريفي الذي سيختار التخلّي عن المغرب، بطرقه السيارة، وجامعاته الحديثة، ومستشفياته العصرية، وثرواته البرية والبحرية، وفلاحته المتطورة...، والذي بناه الريفيون، بجانب جميع المغاربة، بعملهم وضرائبهم ودفاعهم كجنود عن صحرائه، لينعزل في جبال جرداء لا تنتج إلا نبتة الكيف؟ نعم قد يروّج لهذا الانفصال ويشجّع عليه من لا يكنّ ودّا للريفيين، فيريد أن يتخلّص منهم ويحرمهم من خيرات المغرب ليستأثر بها وحده.
نعم هناك مجموعة من الريفيين، وهم في غالبيتهم نشطاء في الحركة الأمازيغية، يطالبون بالحكم الذاتي لمنطقة الريف، على غرار الأنظمة الفيديرالية. لكن لمجرد أن هذا المطلب صادر عن مغاربة ريفيين، هم في المتخيّل السياسي انفصاليون، فهو إذن مطلب انفصالي مع أن الحكم الذاتي، ضمن دولة فيديرالية، يمثّل قمّة الديموقراطية التشاركية الحقيقية. وقد أعلن المغرب نفسه أنه عازم على تمتيع أقاليم الصحراء بنظام الحكم الذاتي. لكن الدستور تجنّب استعمال عبارة الحكم الذاتي، والتفّ على الموضوع بالحديث عن "الجهوية المتقدمة". وفي ما يخص الريف، من الواضح أن التقسيم الجهوي، المعتمد لتطبيق هذه "الجهوية المتقدمة"، روعي فيه هدف تفكيك هذا الريف كجهة ذات وحدة بشرية وجغرافية وتاريخية وثقافية وهوياتية ولغوية. وهذا ما كان وراء فصل الناظور عن الحسيمة. وهو قرار مجحف في حق الريف، ويتناقض تماما مع أسس ومقوّمات الجهوية، وخصوصا إذا كانت هذه الجهوية "متقدمة"، كما يتغنّى بذلك المسؤولون.
لنعود إلى موضوع الرايات ونفحص أصولها التاريخية، وما إذا كانت لذلك دلالة وطنية أو انفصالية.
في ما يخص الراية الأمازيغية، ففضلا على أنها راية وحدة تجمع كل دول شمال إفريقيا التي تشترك في نفس الهوية الأمازيغية الشمال إفريقية، كما سبق شرح ذلك، فهي من إبداع أمازيغيين من الجزائر والمغرب. فهي إذن صنع محلي شمال إفريقي، تعبّر عن الهوية الجماعية لشعوب هذه المنطقة. ليس لها إذن أية علاقة بما هو أجنبي خارج شمال إفريقيا، نشأة ورسما، حتى يمكن القول إنها راية الانفصال أو العِمالة أو الاستعمار أو الولاء للأجنبي.
أما علم جمهورية الريف، فهو ـ رغم ما يقال عنه جهلا إنه علم انفصالي لأنه يخص جزءا من المغرب، وهو الريف، ولم يكن يرمز إلى كل الوطن ـ علم مغربي أصيل، سبق ظهورُه واستعمالُه ظهورَ جمهورية الريف. ذلك أن نجمته السداسية التي تميّزه، ليست من ابتكار جمهورية الريف في بداية القرن العشرين، بل كانت معروفة ومستعملة في المغرب، منذ القرن السابع عشر، كرمز مميّز لراية دولة المخزن. ولأن هذه النجمة كانت، لانتشارها الواسع بالمغرب، تعتبر منتوجا محليا ومغربيا خالصا، فقد كانت لا تخلو منها مصنوعات الحلي والزينة، ورسوم الوشم، وزخارف الزرابي، والعديد من المواد النقشية والخزفية... ولهذا نجدها مرسومة على النقود المغربية حتى بعد دخول المغرب تحت الحماية الفرنسية، كما ظلت تتوسط العلم المغربي لدولة المخزن إلى تاريخ 17 نوفمبر 1915. والمعجم الفرنسي "لاروس الصغير الجديد المصوّر" (Nouveau petit Larousse illustré) لـ1924 يتضمن صورة العلم المغربي بلونه الأحمر ونجمته السداسية في الوسط. إذن ما فعله محمد بن عبد الكريم الخطّابي، باستعماله لعلم خاص بجمهورية الريف يحمل هذه النجمة السداسية، هو استمرار لاستعمال نفس الرمز الذي كان يُعرف به العلم المغربي، وحفاظ منه على تقليد مغربي أصيل.
أمّا علَمنا الوطني الحالي، بنجمته الخماسية، فقد كان، قبل نوفمبر 1915، شيئا غريبا عن المغرب والمغاربة وتاريخهم، لم يسبق لهم أن عرفوا ولا استعملوا راية تتوسطها نجمة بخمسة فروع. ولهذا فرغم أن هذا العلم الجديد (ظهر في 1915) هو اليوم علمنا الوطني، وهو ما يوجب علينا الاعتزاز به وحمايته والدفاع عنه، إلا أن الحقيقة هي أنه منتوج استعماري، اختاره لنا وفرضه علينا المارشال "ليوطي"، الذي أصدر ظهير 17 نوفمبر 1915 باسم السلطان مولاي يوسف، قرّر فيه أن يحمل العلم المغربي نجمة خماسية تميّزه، بدل النجمة السداسية التي كانت معروفة ومستعملة في العلم المغربي قبل هذا التاريخ. أما المبرّر الذي جاء في الظهير لتسويغ هذا التغيير للعلم المغربي، فهو الزعم أن «راية أسلافنا المقدّسين تشبه بعض الرايات وخصوصا المستعملة في الإشارات البحرية». طبعا هذه ذريعة واهية وغير مقنعة. لماذا إذن أقدم "ليوطي" على إلغاء النجمة السداسية وفرض محلها النجمة الخماسية؟ القليل يعرفون ـ والكثير يجهلون ـ أن "ليوطي" كان معاديا للسامية، أي معاديا لليهود (Antisémite)، متأثرا بذلك بثقافة عصره وبلده حيث كان العداء لليهود، في بداية القرن العشرين، إيديولوجية واسعة الانتشار بكل أوروبا، في الأوساط الشعبية والسياسية والثقافية، وهو ما مهّد لمحرقة اليهود على يد النازية كقمّة لهذا العداء للسامية. ولأن "ليوطي" كان يعرف أن النجمة السداسية رمز مقدس لدى اليهود، ولأنه يكرههم ويعاديهم بصفتهم يهودا، فقد استعمل سلطته كحاكم للمغرب ليزيح هذا الرمز، الذي يكرهه لأنه يكره اليهود الذين يحيل عليهم هذا الرمز. هذا هو الدافع الحقيقي وراء قرار "ليوطي" تغيير النجمة السداسية العريقة في المغرب بالخماسية، لأسباب هي عنصرية في الحقيقة، ترتبط بالعداء لليهود.
نعم كان بإمكان "ليوطي" أن يعلّل هذا القرار، ليس بالمبرر البليد، الذي هو التشابه بين راية المغرب وراية الإشارات البحرية، بل بالتشابه بين رمز الراية المغربية ورمز اليهودية. لكنه لم يفعل خوفا من انكشاف موقفه العنصري تجاه اليهود. وأسوأ تبرير يُعتمد عليه لإعطاء المشروعية للنجمة الخماسية التي أدخلها "ليوطي"، ذلك القول الشائع بأنها تمثّل، بفروعها الخمسة، الإسلام بأركانه الخمسة. هذا أسوأ تبرير لأنه يعني أن المغاربة لم يفهموا أو لم يعرفوا الإسلام حتى جاء "ليوطي" فعرّفهم بهذا الدين، من خلال وضع علامة ترمز إليه على علمهم الوطني كدليل على أنهم مسلمون. وهو ما يعني أيضا، نتيجة لذلك، أنهم لم يكونوا مسلمين عندما كانت رايتهم تحمل نجمة بستة فروع. ولهذا فلو كان هاجس "ليوطي" هو استعمال علامة ترمز إلى الإسلام في العلم المغربي، لاستعمل، ليس النجمة الخماسية، بل علامة الهلال، الذي هو رمز الإسلام كما هو معلوم. وهو الرمز الحاضر في علم جمهورية الريف، والذي قصد به محمد بن عبد الكريم الخطّابي التاكيد أن جمهورية الريف دولة إسلامية.
نلاحظ إذن كيف أن علمنا الوطني الحالي، الذي يتحتّم علينا احترامه والاعتزاز به، ذو أصل فرنسي استعماري أجنبي، فرضه علينا المحتل "ليوطي".
بناء على المعطيات التاريخية للأعلام الثلاثة، ما هو العلم الانفصالي وغير الوطني، هل العلم الأمازيغي أم الريفي ـ اللذان يُنعتان بالانفصاليين عند الجهلة بتاريخ الأعلام الثلاثة ـ أم المغربي؟ إذا عرفنا أن الأعلام ترمز إلى الدول وأوطانها كأقطار وبلدان وليس كأعراق وأنساب، فلماذا يكون العلم الأمازيغي انفصاليا وهو علم الهوية الأمازيغية لشمال إفريقيا كمنطقة وموطن ينتمي إليه المغرب؟ ولماذا يكون علم الريف انفصاليا، وهو، بنجمته السداسية، علم مغربي تاريخي أصيل، كما سبق أن شرحنا؟ أما وأنه كان علما لجمهورية فصلت الريف عن باقي المغرب، ومن هنا فهو علم انفصالي، فكلام مردود. لماذا؟ لأن باقي المغرب، من غير الريف، كان تحت الاحتلال الفرنسي، ولهذا أقام ابن عبد الكريم الخطّابي جمهورية في الجزء المحرّر من المغرب، وهو الريف. سيصحّ الحديث عن الانفصال لو أن المغرب كان بلدا حرا ومستقلا فقام الخطّابي بفصل الريف عن الوطن الأم، وأقام به جمهورية مستقلة. أما وأنه اختار علما آخر غير العلم الوطني، مما قد يدل على إرادة الانفصال، فهو كلام مردود أيضا. لماذا؟ بالإضافة إلى ما قلناه من أن علم جمهورية الريف هو، بنجمته السداسية، علم مغربي أصيل، فإنه لم يكن من المعقول ولا المقبول أن ابن عبد الكريم الخطّابي، كما شرح ذلك بتفصيل الدكتور علي الإدريسي في أحد حوراته المنشورة بالجريدة الإلكترونية "لكم2" بتاريخ فاتح ماي 2017 (http://lakome2.com/mobile/politique/26359.html)، سيستعمل العلم الجديد لعدوه "ليوطي". فقد كان في حرب مع هذا الأخير، فكيف يعقل أن يتبنّى رايته ويحاربه باسم هذه الراية؟ ويجدر التذكير أن هذه الراية لم تكن معروفة بعدُ عند كل المغاربة، الذين كانوا متعوّدين على الراية ذات النجمة السداسية، والتي احتفظ عليها الخطّابي في رايته لجمهورية الريف.
إذن ما هو العلم الانفصالي وغير الوطني، من بين الأعلام الثلاثة، لتوفره على خاصية الانفصالية واللاوطنية؟ إنه العلم الوطني الحالي باعتباره، أولا، دخيلا على الوطن ومنفصلا عنه، لأنه بلا جذور ولا أصول تاريخية في هذا الوطن، ولأنه، ثانيا، منتوج استعماري صنعه وفرضه الاحتلال الفرنسي. وأكرر أن هذا لا ينفي أنه أصبح اليوم علمنا الوطني الذي علينا احترامه والاعتزاز به وحمايته والدفاع.
ولأن هذا العلم ذو أصول استعمارية أجنبية، فلا نفهم لماذا لم تبادر دولة الاستقلال إلى إلغائه وتغييره بعلم آخر، إما بالعوذة إلى النجمة السداسية الأصلية للراية المغربية قبل الحماية، أو بابتكار رمز آخر جديد للعلم الوطني. حقيقة ليس من الضروري إلغاء كل ما خلّفه لنا الاستعمار، وإلا كنا سنهدّم المدارس ونخرّب السكك الحديدية، ونلغي القانون الجنائي وقانون الالتزامات والعقود، ونغلق المستشفيات ومختلف المؤسسات والمرافق العمومية التي أنشأها الاستعمار الفرنسي. لكن في ما يتعلّق بالعلم الوطني، فالأمر مختلف. أولا هو ليس شيئا إذا قمنا بتغييره بما هو وطني أصلي ستتوقّف الفائدة منه، أو سيكّلفنا ذلك وقتا ومالا، مثل المستشفيات أو المدارس أو الأنظمة الإدارية... وهو، ثانيا، يعبّر عن السيادة الوطنية التي استردّها المغرب في 1956. ولهذا فقد كان على الدولة أن لا تستمر في استعمال علم كان يعبّر عن فقدانها لسيادتها واستقلالها لأنه من وضع من أفقدها هذه السيادة وهذا الاستقلال، وأن تعتمد علما جديدا مختلفا كتعبير عن استعادة سيادتها واستقلالها. لقد سارعت دولة الاستقلال إلى إلغاء ظهير 16 ماي 1930 (الظهير البربري) الخاص بالأعراف الأمازيغية، التي هي أعراف مغربية أصيلة، وحظر تدريس الأمازيغية، التي هي لغة مغربية أصيلة كذلك. لكنها أبقت على علم "ليوطي"، الذي هو علم دخيل وأجنبي واستعماري. وهذا يبيّن أن ما حاربته دولة الاستقلال ليس هو الإرث الاستعماري، بل فقط الجانب من هذا الإرث المرتبط بالأمازيغية.
لهذا عندما نحلّل مفاهيم "الوطنية" و"الوطني" ، و"الانفصالي" و"التبعية للأجنبي"، و"تهديد الوحدة الوطنية"، وخصوصا عندما نربطها بالرايات التي ترفع في التظاهرات، فقد نقف على حقيقة أخرى مخالفة ينقلب فيها السحر على الساحر.