بقلم: محمد بودهان
يمكن القول بأن التنافس بين المغرب والجزائر، بقدر ما هو قائم بخصوص سعي كل منهما إلى السبق لخدمة العروبة العرقية ونهج سياسة التحوّل الجنسي، أي القومي والهوياتي، لتعريب عرقي وسياسي وهوياتي وقومي ولغوي وإيديولوجي للشعبين الأمازيغيين، المغربي والجزائري.
فهو قائم بخصوص سعي كل منهما، كذلك، إلى السبْق لرد الاعتبار للأمازيغية كقرار سياسي يُحرج به أحد الجارين الآخرَ. وهكذا نلاحظ أنه بعد خطاب 20 غشت 1994، الذي دعا فيه الراحل الحسن الثاني إلى تدريس ما سماه باللهجات الأمازيغية، سيكون رد فعل الجزائر، وبعد شهور فقط من خطاب الحسن الثاني، هو إنشاء المحافظة السامية للأمازيغية بتاريخ 27 ماي 1995، في عهد الرئيس اليمين زروال.
وكان يجب الانتظار إلى أن تولّى محمد السادس الحكم ليكون المغرب هو السبّاق لاتخاذ قرارات جريئة، مقارنة مع الجزائر، في ما يخص رد الاعتبار الأمازيغية، مثل إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في17 أكتوبر 2001، والذي هو مؤسسة متقدمة، وبمسافة طويلة، عن المحافظة السامية للأمازيغية بالجزائر، والذي سيُشرع معه في تحقيق العديد من المنجزات لصالح الأمازيغية مثل ترسيم حرف "تيفيناغ"، وانطلاق تدريس اللغة الأمازيغية، وإنشاء قناة تلفزية أمازيغية، وإقرار الأمازيغية هوية ولغة رسميتين في دستور فاتح يوليوز 2011.
في الحقيقة لا تصحّ، بخصوص الأمازيغية، مقارنة ما أنجزه المغرب بما أنجزته الجزائر، ولا يصحّ، كذلك، اعتبار ما سبق إليه المغربٌ الجزائرَ في شأن النهوض بالأمازيغية، على فرض أنه بالفعل سبقها إلى ذلك، سبْقا يجعل المغرب متقدما على الجزائر في ما يتعلق بملف الأمازيغية. لماذا؟ لأن المغرب هو أصلا سبّاق ومتقدم في الأمازيغية لكونه أول وأكبر بلد امازيغي في العالم. وبالتالي، فكل ما يحققه للأمازيغية هو شيء عادي ما دام لا يوجد بلد أمازيغي بحجم أمازيغية المغرب حتى تمكن المقارنة بينه وبين المغرب على مستوى الاهتمام بالأمازيغية.
ولهذا فإن السبْق الحقيقي، إذا كان لا بد من الكلام عن سبْق، فهو القرار الذي اتخذه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يوم 27 دجنبر 2017، والقاضي بإقرار رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية مدفوعة الأجر. بهذا القرار يكون الرئيس الجزائري قد ضرب عصافير بحجر واحد: ـ سيغطّي به على مساوئه الكثيرة وأخطائه العديدة، لأنه اتخذ هذا القرار الصائب وهو في نهاية العمر، مما سيجبّ به أخطاءه السابقة ويكون بمثابة "صدقة جارية" تجلب له حسن الذكْر بعد مماته. ـ يقدّم به خدمة للأمازيغية ذات أهمية بالغة جدا، من حيث دلالتها الثقافية والهوياتية والتاريخية والرمزية، إلى درجة أن هذا القرار يشكّل وحده اعترافا رسميا بأمازيغية شمال إفريقيا. وما يزيد من أهمية هذا القرار هو أن تنفيذه فوري ولا يحتاج إلى شروط قد تؤخر هذا التنفيذ إلى تاريخ مؤخر دائما، كما حصل في المغرب مع تدريس الأمازيغية وتفعيل ترسيمها المتوقفين دائما بسبب التأخير الدائم لتنفيذهما. ـ يسبق به المغرب في الاعتراف برأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية. وهذا سبْق حقيقي للسبب الذي تقدّم أن شرحناه، عكس ما لو كان المغرب هو المبادر بهذا الاعتراف، لما كان صاحب سبْق في ذلك، كما سلف أن أوضحنا. وهو بهذا السبْق يوجّه صفعة إلى أولئك المسؤولين المغاربة، الذين يرفضون الاستجابة لمطلب إقرار رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية مؤدّى عنها، دافعين بمبررات مضحكة تنمّ عن جهل مستحكم، واحتقار متأصل للذات، وتنكّر راسخ للأمازيغية. ولا شك أن قرار الرئيس الجزائري، الذي يشكّل انتصارا ديموقراطيا وحقوقيا، سيضعهم في حرج لا يمكن إخفاؤه بتلك المبرات المضحكة والجهْلية.
كيف نفسّر هذا السبْق الجزائري وهذا التأخر المغربي في ما يخص إقرار رأس السنة الأمازيغية عيدا وطنيا رسميا؟ أحد الأسباب هو أن القرار الجزائري صادر عن رئيس الدولة، وليس عن الحكومة أو البرلمان. ما هو الفرق بين الاثنين؟ الفرق هو أن الرئيس يتمتع، كإرادة سياسية منفردة، بسلطة القرار والحسم الفوري في القضايا التي تكون من اختصاص مؤسسة رئاسة الجمهورية، دون انتظار حصول توافق وتنسيق بين عدة متدخلين وفاعلين كما في قرارات البرلمان والحكومة.
وهذا ما يفسّر، بخصوص المغرب، غياب أي عائق أو تماطل أو معارضة كان بإمكانها تأخير أو حتى منع صدور ظهير أجدير المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ذلك لأن الظهير قرار يعبّر عن الإرادة الملكية التي لا تنتظر موافقة أية جهة أخرى. وهذا ما يفسّر، كذلك، أن كل ما تحقق للأمازيغية كان بفضل قرارات للمؤسسة الملكية، بما فيها ترسيمها الدستوري الذي هو تنفيذ لما جاء في خطاب الملك لتاسع مارس 2011، الذي حدّد فيه العناصر التي يجب أن يتضمنها الدستور الجديد، وضمنها ترسيم الأمازيغية.
وإذا كان يبدو مفارِقا أن عملية النهوض بالأمازيغية قد عرفت تراجعات وتماطلات وعراقيل منذ ترسيمها في دستور 2011، فذلك لأن هذا الترسيم نقلها من اختصاص الإرادة الملكية كمجال سيادي، إلى مجال الحكومة والبرلمان كاختصاص حكومي عادي، تتخذ فيه القرارات بناء على توافقات وتوازنات وحسابات حزبية وسياسوية قد لا تسهّل إصدار القرار في الوقت المناسب، ولا بالشكل المناسب للموضوع. والدليل على ذلك هو التماطلُ، حدّ التلاعب، في إخراج القانون التنظيمي للأمازيغية، والذي مرت على دسترها ست سنوات ونصف دون أن يرى هذا القانون النور بعدُ. الأمازيغية ليست، بسبب الإقصاء الشامل الذي عانت منه لعقود طويلة، شأنا عاديا لتكون من اختصاص الحكومة والبرلمان.
إنها تحتاج إلى معاملة تمييزية تناسب وضعها كضحية إقصاء وظلم وتهميش. وقد حظيت فعلا بهذه المعاملة التمييزية عندما كانت شأنا سياديا من اختصاص الملك. وهذه المعاملة التمييزية هي التي كانت وراء كل القرارات التي اتخِذت لفائدتها، كما سبقت الإشارة. من جهة أخرى، لا يمكن انتظار إلا الأسوأ للأمازيغية من حكومة وبرلمان يتشكلان من أحزاب لا زالت، في غالبيتها، تستقي مرجعيتها من المشرق ومن عروبة المشرق، أي من خارج الوطن. ولهذا فهي تنظر إلى الأمازيغية كتشويش على مرجعيتها العروبية المشرقية.
وقد رأينا كيف أوقف البرلمانيون مناقشة موضوع القانون التنظيمي للأمازيغية، ضمن لجنة التعليم والثقافة والاتصال يوم 25 دجنبر2017 بمجلس النواب، حتى يتفرغوا لاستقبال القيادي البارز في حركة حماس السيد خالد مشعل، الممنوع من دخول العديد من الدول التي تتهمه بالتطرف. وهذا الحدث يعطي لوحده الدليل أن قضايا المشرق وشخصيات المشرق أولى من القضايا الوطنية، وخصوصا إذا كانت أمازيغية، مما يبيّن أن الإيديولوجية المشرقية والعروبية لا تزال هي التي تحرّك السياسيين المغاربة، وتجعل استماتتهم من أجل التحوّل الجنسي، من جنسهم الأمازيغي إلى الجنس العربي، غاية الغايات وقيمة القيم، وقمّة النضال والوطنية.
ولهذا فإن إقرار رأس السنة الأمازيغية عيدا وطنيا هو شيء خارج المفكّر فيه عند هؤلاء السياسيين. وهم بهذا الموقف المناوئ للأمازيغية، يناوئون مواقف الدولة من بعض القضايا دون أن يعوا بذلك. فمثلا سبق للمغرب أن دعا، في نوفمبر 2015، منظمة الأمم المتحدة ومختلف هيئاتها إلى الوقوف بجانب أمازيغيي الجزائر بخصوص «الشعب القبايلي» (هكذا سماه ممثل المغرب)، ومساندته «حتى يتمتع بحقوقه الشرعية في تقرير المصير والحكم الذاتي»، كما جاء في مداخلة نفس الممثل.
فكيف ينسجم هذا الموقف، ويعطي مفعولَه في حشد الدعم ضد الجزائر، إذا كانت هذه الجزائر، التي يندّد المغرب بانتهاكها لحقوق شعبها القبايلي الأمازيغي، قد اعترفت برأس السنة الأمازيغية لهذا الشعب عطلة رسمية لجميع الجزائريين، في الوقت الذي يرفض فيه المغرب هذا الاعتراف لشعبه الأمازيغي؟ فمن سيصدّق أن المغرب صادق في دفاعه عن "الشعب القبايلي" الأمازيغي بالجزائر، إذا كان يرفض الاستجابة لمطلب أمازيغي استجابت له الجزائر التي يتهمها برفض مطالب الأمازيغيين؟ سبب هذا التناقض والتضارب في موقف المغرب يرجع إلى المسؤولين الحكوميين، الذين لا يقدّرن الدور الهام الذي يمكن أن تلعبه الأمازيغية في سياسته الخارجية والداخلية. ومن هنا رفضهم للاعتراف برأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية، إلى أن صفعهم بوتفليقة على قفاهم فاستفاقوا مذعورين ومرتبكين. ماذا سيفعلون الآن؟ لا يمكن أن يستمروا في رفض الاستجابة لمطلب ترسيم رأس السنة الأمازيغية عطلة وطنية، لأنهم سيظهرون أمام العالم أنهم لا زالوا يتعاملون بتمييز عنصري مع الأمازيغية والأمازيغ.
وفي هذه الحالة فهم خاسرون وعندما سيستجيبون لهذا المطلب، وهو أمر حتمي لا مفر منه، فسيكون ذلك تحصيلا للحاصل، وبلا ربح سياسي لأن هذا الربح سبق أن فازت به الجزائر بسبْقها إلى الاستجابة لهذا المطلب. نريد بهذه المناقشة الخلوص إلى القول إن ملف الأمازيغية لو بقي بيد الملك، ولم ينتقل إلى اختصاص الحكومة والبرلمان، لكان ذلك أفضل بكثير لها. وهذا لا يعني أن المؤسسة الملكية لا يمكنها أن تعطي أوامرها للحكومة والبرلمان لإنصاف الأمازيغية إذا قررت ذلك.
وهنا يطرح السؤال عن الدافع إلى تحويل ملف الأمازيغية من المجال السياسي للملك إلى المجال الحزبي للحكومة والبرلمان. وقد أدى هذا التحويل إلى استهتار حتى بالقانون، كما يظهر ذلك جليا في إلغاء المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية دون اتباع المسطرة القانونية لهذا الإلغاء. فالمعروف أن هذا المجلس أنشيء بموجب الظهير الشريف رقم 299-01-1 (17 أكتوبر 2001) الصادر في 29 من رجب الخير 1422، والمنشور بالجريدة الرسمية رقم 4948 لفاتح نونبر 2001. وعليه فإن إلغاء هذا الظهير، أو تعديله أو تتميمه، يجب أن يكون بظهير أو بمرسوم، وينشر، طبعا، بالجريدة الرسمية. وهو ما لم يحصل إلى الآن.
فما هو، يا ترى، السند القانوني لإلغاء المجلس الإداري لمعهد الأمازيغية؟ لا شيء. وهو ما يجعل هذا المجلس قائما قانونيا رغم أنه غير موجود واقعيا. فانتهاك القانون والاستهتار به، عندما يتعلق الأمر بالأمازيغية، أمر عادي ما دام الغرض من هذا الانتهاك والاستهتار هو انتهاك للحقوق الأمازيغية واستهتار بها. لهذا لو كان هناك تطبيق واحترام للقانون، لتشكّلت، في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة، لجنة للبحث والتقصي حول المسؤولين عن كل الخروقات التي صاحبت ملف الأمازيغية منذ إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية إلى اليوم، كإفشال مشروع تدريسها، وتعليق تفعيل ترسيمها، وإلغاء المجلس الإداري، المشار إليه، خارج القانون.